قبل حوالى ستة عشر شهراً، هاتَفني محمد. بدأ المكالمة بأنه أراد إبلاغي بنفسه، لا أن أعرف من منشور في وسائل التواصل الاجتماعي. كانت مهمة شاقة بلا شك، أن يبلغ الجميع بالخبر الرهيب، واحداً واحداً، ولم أكن أقرب الأصدقاء ولا نتشارك تاريخاً طويلاً معاً مثل ذلك الذي يملكه مع آخرين كثر، فتصورت اتساع دائرة المهمة، كم كنا… عشرات؟ أم مئات؟ لأكثر من أربعين دقيقة، وبتأنٍّ مذهل ودقيق، أخبرني محمد بتفاصيل حالته الطبية.
كان محمد، على عكسي، يحب الدقة، أما أنا فبالغتُ دائماً في تقديري الوقع البلاغي للحقائق. بلغني بالاكتشاف المفاجئ والمتأخر لنوع نادر من السرطان، الخيارات القليلة للعلاج والنسب المتدنية للأمل في نجاته. مع كثير من حسن الحظ، سينال عامين إضافيين من الحياة قبل أن يهاجمه المرض مرة أخرى. بلّغني بهذا كله بهدوء تخلله بعض من الضحكات، لكن أكثر ما كان استعصاء على فهمي وأكثره رقة، هو سعيه لتهدئة روعي بشفقة وافرة، كان يطالبني بتمالك نفسي مع كل شهقة من الفزع أطلقتها، وأظنه فعل ذلك مع كثيرين غيري. لم تكن هذه مكالمة وداع، كان محمد يفعل كل شيء كعادته، بحسب الأصول، كأنه لا يريد أن يتركنا في مواجهة موته من دون دعم منه وأن يسرد الحقائق بين يدينا. كان هذا مغزى مكالمته وحياته الممتلئة التي أودَعها كل واحد منا، أي هذه الحاجة إلى أن نكون معاً في الشدة كما في المسرّة، ذلك التضامن الذي يجعل للألم معنى، ويقلب المعاناة إلى محبة.
ككل أبطال الملاحم التراجيدية، يعرف البطل ومن حوله مصيره المحتوم، يسير نحوه بوعي لكن من دون استسلام، وبعناد خارق هو مزيج من أمل ونقيضه، يأس مطلق لا يترك بدّاً من تكرار المحاولة إلى الأبد. لم يكن المرض اللعين، سوى مواجهة أخيرة من المعارك التي خاضها محمد مع غيلان عديدة، بدت كلها هائلة، مقارنة بهشاشته البشرية.
في السياسة، خرج محمد على ترِكة الإسلام السياسي التي ورثها عن الأب، وعن تنشئة في محيط “الجماعة” لا يتبرأ منها. فهي، كما كان يقول دائماً، ما صقل في داخله قيَم التفاني والإصرار والصبر على الشدائد وإنكار الذات. تلك الفضائل التي لم ينكرها، وإن لم يمنعه هذا من نقد “جماعة الإخوان”، في السر كما في العلن. كان هذا الانتقال من جهة سياسية إلى غيرها، ما جعله دائماً متفهماً للجميع، للمسافة بين الخصوم، بالقَدر نفسه لفهمه الصّلة بين الحلفاء. أهَّله هذا ليكون نقطة التقاطع بين هؤلاء جميعاً في ساحة العمل الحزبي وأروقة مهنة الصحافة، وقبل كل شيء في ذراع الصداقة الممدودة دائماً.
في الثورة، صنع محمد إسماً لنفسه. بات أحدُ نصوصه الأولى من أبرز عناوينها. فمَن يذكُر ثورة يناير ولا يتذكَّر “الفقراء أولاً يا أولاد الكلب”؟ كان مؤمناً بالمؤسسات والعمليات الديموقراطية، بالدستور والانتخابات والبرلمان. لكن، وقبل أي شيء آخر، كان معنياً بالناس الحقيقيين.
لكن الغول الذي صارَعناه جميعاً، ومحمد بيننا في أول الصفوف، كان أكثر وحشية من أي شيء خبرناه من قبل. في المنفى، تعرفت إلى محمد للمرة الأولى وجهاً لوجه. كنا نلتقي في غرفة الإعداد في استوديوهات “التلفزيون العربي” على فترات متباعدة. كان يدعوني كضيف في برنامجه، وكنت ألبي الدعوة لانتهاز فرص لقاءات قصيرة وسط جدول حياتنا المزدحم.
أذكر واحدة من تلك الأمسيات، وهو جالس أمام شاشة حاسوبه ويعتذر عن عدم قدرته على الالتفات ناحيتي بسبب آلام الرقبة المزمنة التي يعانيها. حينها أخبرني بأن زوجته وابنه ممنوعان من السفر من مصر، بعد وصولهما في زيارة صيفية. كان احتمال ألا يراهما أبداً وراداً. وكعادته، ناقش معي بهدوء كل الاحتمالات، وبامتنان أخبرني بأنه أفضل حظاً من الكثيرين من المُختفين والقابعين في سجون النظام. احتفظ محمد بمعاناته لنفسه، وحين شارك ألمه، نادراً، لم يسعَ إلى مراكمة رصيد باسم التضحية، بل إلى تذكيرنا بالآخرين، أي أولئك الذين يعانون أينما كانوا.
على الأغلب كانت المعركة مع غيلان النظام، مع الشتات والغربة والسجون التي تحجب الأحباء، محسومة على مدى حيواتنا المُعاشة، لصالح الشر. لكن محمد أبى إلا أن يخوض الحرب إلى نهايتها، مع معرفته برَهاناتنا المتواضعة، في محبته العميقة لأسرته، في تضامنه مع الأصدقاء في المنافي وفي الداخل، في قفزة للمشاركة في كل مبادرة سرية أو علنية من التفاوض أو الحوار بين المعارضة والنظام، في تحققه في مساره المهني الذي أخذ قفزات هائلة، القفزة بعد الأخرى، ليصبح عمله من أجل معرفة الحقيقة وإنصاف الضحايا لا يقتصر على مصر وحدها بل يمتد إلي السودان واليمن وغيرها.
أذكر اليوم الذي أخبرني فيه أنه يظن أن هاتفه مُخترق بسبب عمله الاستقصائي، صفقات أسلحة وجرائم حرب وأنظمة دول متنفذة لها أيادٍ طويلة قد تصل إليه في أي لحظة وبكل سهولة. لكن هذا كله لم يُخِفهُ أو يصدّه عن عمله الدؤوب والصامت، ولا حتى برر له تباهياً مُستحقاً بكل هذه الشجاعة، فكان ينسب الفضل إلى الآخرين دائماً، وإلى حُسن حظه وكرم الحياة معه.
في خلال سنوات قليلة جداً، حصد محمد أرفع جوائز الصحافة المحلية والدولية، لكن آخر ما كان يحلم به هو أن يُصدر كتاباً من القاهرة ويعود إليها ولمرة أخيرة ليوقّع نُسخه في معرضها للكتاب. كانت هذه أثمن رغباته المهنية الباقية، ورغبة تلخّص كل أحلامه، حلم بوطن حنون يسعنا جميعاً، لكن منَعَه عن تلك الأمنية الأخيرة غولُ المرض وغول الديكتاتورية.
قبل أيام قليلة، نشر محمد مقطعاً أخيراً من كتابه الذي يعمل عليه، وأيقنتُ حينها أن هذا كان فصل الكتاب الأخير، وأنه أتمّ المهمة التي وضعها لنفسه قبل أن يودعنا، تاركاً مع كل واحد منا وديعة بإسمه، ووصية أنه لا سبيل آخر سوى أن نكمل معركتنا مع الغيلان إلى النهاية، ولا طريقة أخرى لفعل هذا من دون الحب وبإسم العدل ولأجله.
*المدن