في طورها الحديث، أضحى قسط من الكتابة العربية مرادفاً لمعاني المنفى والسجن، وبشكل أقل، وإن كان أكثر مأسوية، لمصير الاغتيال. ولعل إدوارد سعيد في “خارج المكان”، كتابه الوحيد المكتوب بصيغة المتكلم، هو أكثر من أسبغ على حالات الغياب والتغييب هالتها الرومانتيكية.
ولا عجب أن تكون النكبة وشتاتها الفلسطيني نقطة الانطلاق لتدوين عربي مقتلع من جغرافيته، سواء في المنافي القريبة والبعيدة أو حتى في “الداخل” المحتل، واعتبار تلك الحالة هي الأساس وليست وضعاً للاستثناء الوقتي. ولا عجب أيضاً في أن يكون نص سعيد المرجعي نفسه، بشأن هذا الاقتلاع العربي، مكتوباً بغير العربية.
لم يكن نصيب الكتابة من أنظمة ما بعد الاستقلال الوطنية بأفضل حالاً مما لحق بمواطنها المادية من خراب على يد الاستعمار الاستيطاني. إلا أن كتابة اللاجئ والمهاجر والمنفي، وكتابات الشتات من المدن الباردة وعن وحشتها، مع أنها وجدت مكانها في القلب من متن التدوين العربي، فالظاهرة على شيوعها ظلت فردية، وإقامة ترتجي الزوال باعتبارها مؤقتة ولو طالت. هكذا، كان الحنين أكثر من مجرد رثاء للخسارة، بل بالأحرى كان أملاً في العودة يزكي الصبر الممتد.
في المسافة بين النكبة الفلسطينية والمحرقة السورية، توسعت حقول الاقتلاع، وراح الأمل ينقلب إلى يأس بختم أبدية الأنظمة، تلك المبعوثة من رماد الثورات المهزومة أكثر وحشية من ماضيها. بفعل الإحصاءات المليونية للنزوح، غدا الفردي معمماً، واللجوء حاملاً وصمة الموجات وهولها الجارف. أما الأوطان المشتهى العودة إليها يوماً ما، فبعضها لم يعد موجوداً، حرفياً لا من باب المجاز. وأماكنها التي محيت من الخرائط بفعل الحرب هي البيان الأكثر برودة على ديمومة الفقد، أما ذاكرتها -إن بقيت لها ذاكرة- فتُستعاد في الغالب بصِيَغ نفسية، “التروما” والتعافي والرغبة اليائسة في النسيان.
لعبة التخمين مقبضة، أي عاصمة ستغدو العودة إليها مستحيلة تالياً؟ وما دامت العودات ممكنة على وقع دقات العد التنازلي، تشبه الزيارات القصيرة إلى الأوطان اغتنام الفرصة الأخيرة. في الأدب كالعادة، وبنظرة عابرة على الصحافة اليومية، تتكاثر الأسماء التي تحل إقاماتها بعيداً من أوطانها. وفي الصحافة الجديدة تحديداً، المتوطنة في عالمها الرقمي غير المتقيد بمكان، يتغلب الخارج على الداخل في بعض أحيان. لكن ما الذي يمكن للمرء أن يكتبه عن بلاد لا يرتجى الرجوع إليها، بل وحتى لم تعد موجودة؟
بالطبع، لا إجابة واحدة. البعض يمارس الكتابة كتدريب على التذكّر، بذاكرة مغبشة تعطي إيحاءً بالألفة، فيما الواقع في الأوطان قد تغير بوتيرة لا يمكن الإلمام بها. القلّة تستمر وكأنها لم تغير مواقعها، وكأن كل شيء باق على حاله وفي موضعه. أما من قبلوا بموقعهم “خارج المكان” وتطبّعوا مع محدداته، فيكتبون من مواقعهم وانشغالاتهم المرتبطة به. وفي الواقع، يتردد مَن يكتب بين تلك المواضع المعنوية جميعها وحول نقاط تقاطعها.
يكتب أحد الأصدقاء في أكثر من مناسبة: الكاتب العربي الجيد ليس أكثر من مترجم جيد. بهذا يعني أنه لا كتابة عربية بل كتابة بالعربية تنهل من مكان آخر. ذلك التعميم المجحف لا يخلو من وجاهة، وظيفة الوسيط أو الشارح كانت ولا تزال لصيقة بأدوار المثقف في منطقتنا. الفارق الهائل في التراكم المعنوي بين الشمال والجنوب، يعطي الغلبة على محتوى الأول في لغات الثاني. تتزحزح مراكز الثقافة العربية بعيداً من عواصمها الآفلة، من القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد، إلى أماكن أبعد، تمتد من العواصم الخليجية إلى برلين وباريس وإسطنبول ونيويورك، لكن فارقاً جوهرياً يمكن توقعه بين الكتابة من “خارج المكان” و الكتابة في “خارج المكان”، أي حين يصبح “خارج المكان” هو المكان الوحيد الممكن.
*المدن