شادي عبد الحافظ : كيف حول السوفييت معارضيهم إلى مرضى عقليين؟

0

“- من الذي عرّفك كشاعر؟ من الذي قام بتسجيلك في صفوف الشعراء؟

– لا أحد، من الذي سجّلني في صفوف الجنس البشري؟”

كان ذلك هو رد الشاعر السوفيتي الكبير، والحاصل على نوبل في الآداب، “جوزيف برودسكي”(1) على القاضي في المحاكمة التي أُقيمت في فبراير/شباط من العام 1964. بدأت الحكاية قبلها بعام واحد حينما نشرت إحدى جرائد ليننجراد مقالا يصف قصائد برودسكي بأنها إباحية ومضادة للاتحاد السوفيتي، بعدها، وبحلول نهاية العام نفسه، قُبِض عليه بتهمة أنه يتّبع أسلوبا طفيليا في الحياة، في أثناء المحاكمة اتهم برودسكي بأنه فشل في الوفاء بواجبه في العمل بأمانة من أجل خير الوطن.

حُكم على برودسكي بالسجن خمس سنوات مع الأشغال الشاقة، مع توصية(2) بإخضاعه لفحص نفسي من أجل تحديد ما إذا كان يعاني من أحد أنواع المرض النفسي أم لا، خلال شهري فبراير/شباط ومارس/آذار قضى الرجل نحو ثلاثة أسابيع في أحد مستشفيات الصحة العقلية، حُقن بالمواد المهدئة بشكل يومي، وأيقظوه في الليل بماء بارد ثم لُفّ بغطاء بارد ومبلل ثم وُضع إلى جانب المدفأة حتّى يجف، شُخّص برودسكي بعد تلك الفترة باضطراب يُسمى بالفصام البطيء (Sluggish schizophrenia)، مع تقرير يقول إنه ليس شخصا ذا قيمة على الإطلاق.

ابتكار المرض

كان مَن شخّص برودسكي هو الطبيب السوفيتي ذائع الصيت وقتها “أندريه سنيزنفسكي”(3)، صاحب الكثير من الميداليات والأوسمة ورئيس الأكاديمية السوفيتية للعلوم الطبية، ومبتكر هذا الاصطلاح، الفصام البطيء. كان سنيزنفسكي هو الطبيب والعالِم السوفيتي رقم 1 في نطاق الطب النفسي، وكان قد ادّعى -مع رفاقه مما يُعرف بـ “مدرسة موسكو” للطب النفسي- أن طيف الفصام ينقسم بالأساس إلى ثلاثة أنواع، الأول مزمن، يتطور بصورة بطيئة ويبدأ بأعراض طفيفة، لكنه لا يتراجع بأي حال، والثاني حاد أو متكرر، يُصاب خلاله المريض بنوبات ذهانية ذات أعراض واضحة ثم تتوقف الأعراض، والثالث مزيج من الحالتين، بحيث يُصاب المريض بنوبات حادة لكن حينما تنتهي لا تتوقف الأعراض تماما بل تستمر في التطور ببطء.

أضاف سنيزنفسكي إلى ذلك أن أحد اضطرابات الفصام التابعة للنوع الأول تبدأ ببطء شديد، ومع أعراض أوّلية لا تكاد تُذكر، على سبيل المثال كان يمكن لحالات القلق أن تُعدّ أحد أعراض الفصام البطيء(4)، كذلك أي اضطرابات الشخصية التي ما زالت تحت حد التشخيص المرضي، حتّى إنه أمكن اعتبار حالات التشاؤم، نعم إنها كما قرأت حالات “التشاؤم”، أو ضعف التكيّف الاجتماعي، أحد أعراض الفصام البطيء، في المقابل من ذلك اعتبر سنيزنفسكي أن الأعراض الأساسية للفصام، ونتحدث هنا عن الهلاوس(5) (Hallucinations) على سبيل المثال (السمعية والبصرية والحسّية في العموم)، لم تكن ضرورية لتشخيص هذه الحالة.

أحد أعراض الفصام المعروفة هي التوهمات، وهو اعتقاد خاطئ ثابت لا يتزعزع، حتى لو اعتقد الآخرون من حول المريض خلاف ذلك

وكالة الأنباء الألمانية

يوسع ذلك من نطاق اضطرابات الفصام بالطبع، ويصل بها إلى النقطة التي تكون خلالها الحدود بين الحالة المرضية والحالة الطبيعية فضفاضة للغاية وربما غير موجودة في بعض الأحيان، بالتالي يصبح من الممكن أن يتم تشخيص إنسان عادي بالاضطراب النفسي، وكان هذا -بشكل أو بآخر- هو المطلوب.

أضف إلى ذلك أحد أعراض الفصام المعروفة هي التوهمات(6) (Delusions)، وهو -بالتعريف- اعتقاد خاطئ ثابت لا يتزعزع، حتى لو اعتقد الآخرون من حول المريض خلاف ذلك أو ظهرت أدلة دامغة تنفي ذلك. في الحالة المرضية فإن جنون الارتياب، حينما يؤمن الشخص إيمانا وثيقا بتعرضه للاضطهاد، هو أحد أشهر الأمثلة، وفي بعض الأحيان تكون تلك الأوهام هي قناعة تامة باقتراب نهاية العالم، أو أن أحدهم يود أن يؤذي المريض، أو أن المريض نفسه هو شخص عظيم في مكانة الأنبياء مثلا.

في تلك النقطة يتدخل سنيزنفسكي ورفاقه ليضيفوا توهمات أخرى ضمن أعراض الفصام البطيء، مثل(7) “أوهام الإصلاح” (delusion of reformism) أو أوهام النضال من أجل الحقيقة، وأدرجت بعض الأعراض الأخرى للمرض إلى الدليل التشخيصي الخاص بمدرسة موسكو، مثل إظهار اهتمام استثنائي بالفلسفة والدين والفن.

مريض بالرغبة في الإصلاح!

حينما تتحدث مع شخص بشكل طبيعي ثم يُثار موضوع عن الدولة أو الماركسية أو لينين أو ستالين أو الشيوعية أو أي شيء من هذا القبيل فيهتم فجأة ويبدأ في عرض وجهة نظره المعارضة، لا بد -بحسب وجهة النظر تلك- وأن هذا النوع من السلوك هو عَرَض للتوهّم، فهو أيضا لا يتزعزع، ويختلف عن اعتقادات المحيطين، ويسيطر على الشخص فيظل يطالب بالإصلاح دون توقف!

في الحقيقة، كان بالفعل من الممكن للشخص -بحسب التشخيص الخاص بالتوهّمات- أن يكون قادرا على العمل اجتماعيا بشكل طبيعي، لكن من حين لآخر قد يحدث أن يُثار انتباهه للنقطة التي تتسبب له في حالة الهَوَس، فيبدأ هاجسه المرضي في العمل بقوّة، استخدم سنيزنفسكي تلك النقطة لإدخال الانشقاق عن القواعد الأيديولوجية الثابتة للاتحاد السوفيتي كعرض للمرض النفسي.

حالات أخرى(8)ربما لا تصدقها تم ضمّها للنطاق المرضي نفسه، كمحاولات البعض للهجرة، أو مجرد توزيع أو امتلاك مقالات أو كتب محظورة، كذلك كانت المشاركة في التظاهرات المتعلقة بالحقوق المدنية سببا لتشخيصك بالفصام البطيء، وكانت المشاركة في أنشطة دينية محظورة سببا آخر. في الواقع، كان الانتماء لأي معتقد ديني سببا كافيا لإرسالك مباشرة إلى أقرب مصحة عقلية.

من وراء سنيزنفسكي انطلقت فِرق مدربة من الأطباء النفسيين، والتي كانت مؤمنة تماما بصدق التجربة الشيوعية، لتطبيق نظامه التشخيصي ضد المعارضين للنظام باعتبارهم حالات فصامية تستدعي التدخل الدوائي، وضعت الكثير من الحالات في مستشفيات خاصة بهذا الغرض وأُخضِعوا إجباريا لنظام علاجي بمضادات الذهان إلى جانب نظام إعادة تأهيل، في مقابل ذلك اقتضت الإصابة بهذا الاضطراب أن تسحب كل حقوق الشخص المدنية، انطلق ذلك من فكرة الدولة السوفيتية التي تقول إن كونك عضوا غير فاعل في المجتمع يستوجب التعامل معك كـ “غير مؤهل” وتخضع فقط لقرارات الطبيب.

الطبيب السوفيتي ذائع الصيت “أندريه سنيزنفسكي” (مواقع التواصل)

سجن من نوع خاص

كان ذلك مفيدا للغاية بالنسبة للاستخبارات الروسية، خاصة في الحالات التي استعصى فيها التدخل القانوني، أو تلك التي كان التدخل القانوني فيها سيُمثّل حرجا للقضاء السوفيتي بشكل فاضح، حالات المشاهير على سبيل المثال، من جهة أخرى فإن الطب النفسي يمكن له قانونا أن يأمر بحجز شخص ما في مكان مغلق (مستشفى صحة عقلية) لأنه قد يؤذي نفسه أو يؤذي المجتمع، في تلك الحالة يكون دور الدولة هو أن تعالج، أو تعيد تأهيل، ذلك الشخص بصورة إجبارية، من تلك الثغرة(9) دخلت الاستخبارات السوفيتية إلى الطب النفسي، خاصة وأن القوانين الطبية في الاتحاد السوفيتي اقتضت إدخال أي مريض نفسي إلى المستشفى بناء على أي طلب من رئيسه أو أقاربه أو تعليمات من أي طبيب نفسي في المنطقة، وفي هذه الحالة فإن موافقة المريض أو رفضه لا تهم.

بتطبيق النظام التشخيصي الجديد لسنيزنفسكي ارتفعت(10)نسبة الفصام في الاتحاد السوفيتي إلى 7 في كل 1000 مواطن بينما كانت المتوسطات الإنجليزية، على سبيل المثال في تلك الفترة، هي 3 لكل 1000 مواطن، هذا لأن تلك الحالة الجديدة وسّعت من نطاقات الفصام، حتّى أصبح العدد النسبي لمرضى الفصام، بحلول الثمانينيات من القرن الفائت، هو ضعفيه في الاتحاد السوفيتي مقارنة ببلدان مثل ألمانيا، أستراليا، واليابان، وثلاثة أضعاف عدد المرضى في الولايات المتحدة الأميركية، في تلك الفترة كانت موسكو هي أكثر مدينة في العالم، وتاريخه، بها مرضى فصام.

نعرف الآن، بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، أن الفصام البطيء كان ابتكارا -لم يستخدم إلا في الاتحاد السوفيتي فقط- هدف إلى قمع المنشقين، وأن كل ذلك تم بناء على أوامر مباشرة(11) من جهاز الاستخبارات الروسي، كي جي بي، بسجن الآلاف في مستشفيات الأمراض العقلية، وأن الإدارة السوفيتية كانت على وعي تام بالاستغلال الواضح لنطاق الطب النفسي من أجل أغراض سياسية، وحتّى قبل انهيار الاتحاد السوفيتي بعدة سنوات كان سنيزنفسكي قد اتُّهم من قِبل الكلية الملكية للطب النفسي بأنه تصرّف بشكل غير أخلاقي عبر استخدام الطب النفسي لأغراض سياسية، وعُزل من منصبه.

تبرير القمع

لكن الأكثر دعوة للتأمل، في هذا السياق، هو قدرة هذا الادعاء على إقناع الأطباء النفسيين السوفييت للقبول باستخدامه أداةً للقمع السياسي، ذلك لأن فقدان الحدود بين الطبيعي والمرضي يسمح بأن يقع أي شخص في نطاق هذا الاضطراب، لفهم تلك الفكرة يمكن لنا أن نتأمل تجارب ليون فيستنجر(12)، عالم النفس الاجتماعي الأميركي الأشهر، حينما لاحظ في الخمسينيات من القرن الفائت ردود فعل أعضاء إحدى الطوائف الدينية والتي كان أفرادها، خاصة المتشددين منهم، على قناعة تامة بأن فيضانا سيلتهم الأرض عمّا قريب في موعد محدد.

“ليون فيستنجر” عالم النفس الاجتماعي الأميركي (مواقع التواصل)

جاء الموعد الخاص بالفيضان ولم يحدث شيء، هنا قال أفراد الطائفة إن توقعات النصوص الخاصة بهم كانت صحيحة، لكنّ تضرعهم ودعاءهم وتقربهم إلى الله هو ما منع الفيضان من القدوم. بحسب فيستنجر، فنحن أمام ما يُسمى بالتنافر المعرفي، وهو -ببساطة- حالة تحتوي على تعارض بين بعض المعتقدات أو السلوكيات التي ينتهجها الشخص نفسه، ينتج عن ذلك شعور بعدم الراحة، فعقولنا يجب أن تكون متسقة مع ذاتها، لذلك يبحث البعض بشكل غير واعٍ عن حلول توفّق بين الأمرين.

أحد هذه الحلول هو العقلنة(13) (Rationalization)، وتعني قدرتنا على تبرير سلوك أو فكرة أو شعور غير مقبول بطريقة منطقية، لا يعني ذلك أن نجد فقط حجّة عاطفية، ولكن أن تكون تلك الحجة مقبولة ومنطقية بالنسبة لنا. بالنسبة للكثير من الأطباء النفسيين السوفييت، والكثير من المواطنين الشرفاء كذلك، فإن “الفصام البطيء” كان تلك الحجة. كطبيب نفسي عاش في تلك الفترة، ربما يمكن بالفعل أن تتصور أن هذا الشخص المُنشق هو حقا مريض، حيث ستقول لنفسك: ما الذي يدفع بشخص ما للتخلي عن سعادته وعائلته ومهنته بسبب قناعة مختلفة تماما عما يبدو أن معظم الناس في محيطه يعتقدون بصحته؟ لا بد أنه مريض! بل لا بد أن الإصلاح مرض!

تكلفة الاستبداد

الأمر لافت إلى الانتباه حقا، ما الذي يمكن أن يصم المعارضين بالعار أكثر من اعتبارهم مرضى نفسيين؟ ما الذي يمكن أن يؤكد للمواطن أن منظومته صحيحه أكثر من اعتبار أن الخارجين عليها هم مرضى عقليون وأن أفكارهم هي أحد أعراض اضطراب الفصام تحديدا، أخطر اضطراب عقلي عرفته البشرية؟ حينما يجلس الناس في المنزل ليشاهدوا ويستمعوا إلى أكبر العلماء والأطباء النفسيين، في التلفاز أو الراديو، وهم يقولون إن الخروج على النظام خلل نفسي، وأن الاعتراض على الأفكار التي تقوم عليها الدولة يستدعي الإيداع في مستشفى عقلي والإخضاع للعلاج، أي رعب هو ذلك؟!

إن تلك، في أعماقها، ومع استمرارها لعقود طويلة، لهي رسالة إلى المواطن العادي بأن التفكير، مجرد التفكير، مجرد القراءة في نطاقات كالفن أو الدين أو الفلسفة، مجرد الشعور بالاستياء من السياسات الموحلة، هو أحد أعراض التوهم المرضي، لكن المفارقة المضحكة، والمبكية في الوقت نفسه، هو أن المصاب الوحيد بالتوهم في تلك الحالة كان النظام الشيوعي السوفيتي نفسه.

أسوأ استغلال ممكن للعلم، أو أي نطاق آخر، هو استخدامه لأغراض سياسية، يُفقد ذلك الناس الثقة في العلماء إلى أجل غير مسمّى

الألمانية

لقد التفّت تلك المنظومة حول نفسها بحيث وصلت للمرحلة التي كان فيها تحديد الجيد والسيئ يُبنى فقط على الجيد والسيئ بالنسبة للحزب بغض النظر عن الإنسان، بزعم أن الحزب هو الحامي والضامن الوحيد لأمن الناس، ومع هذا النوع من المعتقدات تنشأ توهمات مباشرة تقول إن هذا هو بالتالي “أفضل نظام” ممكن طالما أنه يبحث عن الخير الأكبر وأن القائمين عليه هم بالتبعية “أفضل الناس”.

هنا يصل النظام لفكرة تقول إنه لا بد إذن وأن معارضيه هم مجموعة من المرضى أو المتآمرين. أو كما يقول لشك كولاكفسكي، الفيلسوف البولندي، في كتابه “التيارات الأساسية للماركسية” (Main Currents of Marxism) إن “كل شيء يضر الحزب أو يفيده يتم اعتباره، بالترتيب نفسه، سيئا أو جيدا أخلاقيا، ولا يوجد شيء آخر سيئ أو جيد أخلاقيا إلا في هذا الإطار”(14).

إن أسوأ استغلال ممكن للعلم، أو أي نطاق آخر، هو استخدامه لأغراض سياسية، يُفقد ذلك الناس الثقة في العلماء إلى أجل غير مسمّى، تخيّل أنك كنت تعيش في نطاق نظام يستخدم الأطباء من أجل إيهامك بالمرض، ماذا لو أن هذا النظام قد انقشع فجأة، هل سوف تعود ثقتك للأطباء؟ لا، لأن ما حدث قد أفقدك الثقة في قدراتك على تحديد ما هو صواب وما هو خطأ، ويتطلب الأمر الكثير من السنوات لاستعادة ثقة الناس وإعلامهم أن كل جزء فيها منفصل عن الآخر وأن الجميع يعمل تحت سيادة الدستور والقانون، لذلك فإن مشكلة الاستبداد ليست فقط فيما يسببه بوجوده، بل هي -بشكل أكبر- فيما سوف يتركه بعد أن يمضي.

المصدر : ميدان – الجزيرة

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here