منذ أكثر من ربع قرن، يكتب فوّاز حداد سردية الزمن السوري المعاصر. لا يعني هذا أنّه يكتب التاريخ، فالصوت السوري القادم من دمشق يكتب عن الحياة وهي تُبدِّل أطوارها في زمن يتمدَّد من عهد إلى عهد، نحو هذا العصر المضطرب، ليتشكّل منه عالَم ممسوس بإشكاليات إنسانية وسياسية واجتماعية، مصحوبة بمتغيّرات الحياة والبشر، وما حفلت به تلك النقلات من صراعات وانقلابات وتقلُّبات، في فترات لم تخلُ من محاولات للنهوض والصعود، ومن انحدارات كارثية.
يظهر ذلك بجلاء من خلال رواياته، التي بدأها بـ”موزاييك 1939″ و”تياترو 1949″، مروراً بـ”المترجم الخائن”، و”مرسال الغرام“، ووصولاً إلى آخر رواياته، “يوم الحساب”، الصادرة هذا العام عن “دار الريّس” في بيروت.
“يوم الحساب” عنوانٌ إشكالي صادم، وربما مخيف، يثير الفضول، يفتح الباب لتساؤُلات حول ماهية الحقيقة والعدالة، الدين والسياسة. يوم الحساب بالمفهوم الديني يشير إلى القيامة، ربما القيامة هنا تعني، قيامة سورية من أحزانها، أو نهاية سورية وانزياحها إلى المجهول، وقد تكون تفكيك مفاهيم تجذَّرَت في العمق من المأساة السورية، آن لها أن تنجلي أو ترحل.
يتداخلَ جوّ السرد الحكائي ما بين حسّان راوي الرواية المحبَط وشخوصها، بالاتكاء على واقع مأساوي بدأ يتجذَّر، ما يشحن السرد بقوّة الإحساس، مع التدرُّج في الحدث الدرامي، وما يضفيه حداد من طرافة سوداء على مواقف تتتالى، تُسهم بنقل هذه الأجواء المؤلمة إلى القارئ، بلغة متوتّرة وتفاصيل سخية.
ما حدث خلال العشرية الأخيرة، وصدى الصراع على الأرض بالنار والدمار، هو الفضاء العام للرواية، لكن يبدو أنَّ فضاء فوّاز حداد الواسع، والعصف المتأجّج داخله لا يهدأ، فأجمل الكتابة تكون حين يُترك للعصف الداخلي أن يبزغ حرّاً وتلقائياً. وهكذا، وكما في كلّ رواياته، يفتح خطوطاً عدّة، ويطرح أسئلة حياتية، وجودية وفلسفية ودينية عميقة، ويترك للحدث حرية الحركة، وللشخصيات حرية التعبير عن نفسها، وللقارئ غواية التوغُّل في متتاليات عالمه السردي، ثم يعود ليجمع الخطوط، في حبكة واحدة لرواية هي رواية سورية الوطن الممزَّق.
“يوم الحساب” رواية تحفر في العمق، تعرّي واقع الفساد البيروقراطي، والاستبداد السياسي، والانغلاق الثقافي، والضغط الاجتماعي. يتابع فيها فوّاز حداد ما بدأه في رواياته “السوريون الأعداء” و”الشاعر وجامع الهوامش” و”تفسير اللاشيء”، كلٌّ منها تحمل جانباً من الحدث السوري، يطرح فيه رؤاه الواقعية، حول ثنائيات الحرية والثورة، والمنفى والوطن، والبقاء والرحيل، والانتصار والهزيمة، والعدالة والظلم.
يتوغَّل حداد في تلافيف أحد أبرز التابوهات المحرَّمة، التي تجذَّرَت في الواقع السوري، يلج منها إلى أحد أكثر المواضيع إشكالية، الأديان وصراع “الأقليات”، وما يتفرّع عنها من إشكالات، وما تشكّله من صراع لا يهدأ حتى يتفجّر، كاد أن يلغي أصالة الوحدة الوطنية، ومكوّنات الفسيفساء السورية، يلج منها ليضع العلوي والسنّي والمسيحي في خندق واحد.
الأرضية التي تُبنى عليها الرواية هي البحث عن مصير جورج أيقوني المسيحي، الذي ترك دراسته في باريس وعاد لينخرط في الثورة، ويحرّك قضية اختفائه قدوم الأستاذة الجامعية رحاب، الفرنسية من أصل سوري، إلى دمشق، لتجديد البحث عنه، بعد أن فقدت الاتصال معه، وتطلب المساعدة من حسان المعارض من شباب التنسيقيات، الميت الحي، المتواري وراء بطاقة شهيد. المتهيّئ للرحيل والهجرة عن وطن فقد إيمانه به.
وبين هذا الحدث ونهاية الرواية، مياه كثيرة تعبر تحت الجسر.
البحث عن مصير إنسان، في أتون المعمعة السورية، أشبه بالبحث عن قشّة في وادي ذي زرع، لكن حجّة رحاب قوية؛ فهي عاشقة أوّلاً، وتريد الحقيقة والعدالة ثانياً. لم يكن هناك من حلّ غير اللجوء إلى الأم المسيحية أم جورج التي تلجأ بدورها إلى الكنيسة، والأب جبرائيل باعتباره راعي المسيحية والمسيحيين، همُّه الأول حماية الكنيسة، وتجنيبها عاقبة أي هفوة قد تزجّ برعاياه، في أتون معركة خاسرة، باعتبارهم أقلية دينية تحظى بحماية السلطة السياسية.
لم يكن سهلاً إقناع “أبونا” الراهب المتشدّد من طرف، والبراغماتي من طرف آخر، الحائر بين التزمّت الديني والانفتاح الإنساني، الذي يعتقد أنّ ما يحدث ما هو إلّا “انتفاضة مسلمين”، الكنيسة لا شأن لها بها. لكنَّ الأم المكلومة التي لا تدري عن مصير ابنها سوى أنه “غاب في الظلام” لم تتراجع، استخدمت كلّ أساليب الأمّهات، أنذرت بغضب الرب، بل شبّهت نفسها بأم المسيح، تحمل صليبها وتتألّم، لم يستطع “أبونا” المهدّد بغضب الرب الصمود ومواجهة عذابات أمّ مروَّعة بفقد ولدها. ينصاع في النهاية لمشيئة أم جورج، ويبدأ مهمته الصعبة.
رحلة صعبة في متاهة أمكنة محرَّمة، قصور وأقبية ودهاليز، خاض فيها “أبونا” داخل حقول ألغام خطرة، مضنية ومكلفة، تأرجح فيها بين الشك والدهشة والفضول، وتفكيك أكاذيب، وفتح ملفّات، ومواجهة أسئلة شائكة لا جواب لها، رحلة استنزفت الكثير من الجهد والذل والوسطاء والمال والدموع، ليعود بخفّي حنين، خالي الوفاض.
المرأة موجودة بقوّة في رواية حداد، أم جورج، ريما، ورحاب. الأم والحبيبة والصديقة، وجودهن القوي يحرّك أحداثها.
أم جورج، الشخصية المحورية، أم مفجوعة، تبحث عن عدالة مفقودة لابنها الذي هو مشروع شهيد. متديّنة مسكونة بتعاليم الكنيسة. من خلالها يطرح الروائي، الكثير من الأسئلة الوجودية الشائكة، الشكّ والإيمان، الحساب على الأرض أم في السماء، الجنة والنار، الموت وما بعد الموت، الموت المسيحي والموت الإسلامي، كل تلك الأسئلة تتلاشى في لحظة أمام مشهد إنساني مؤثّر تنتصر فيه الأمومة بحسّها المرهف السليم على كل المنظومات الدينية والطائفية الأرضية، وعلى مشاعر الأثرة والأنانية، إذ تدرك الأمّ في لحظة الانصهار في الألم أنّها لا يمكن أن تنعتق منه إلّا بالتضحية، وأن لا شيء، يساوي إقلاق راحة الروح في رقادها الأخير، في لحظة امتزاج رفات الجسدَين الشهيدَين جورج المسيحي وأحمد المسلم في تراب واحد، فمصيرهما واحد في النهاية، وحسابهما هناك في السماء.
ريما، الثائرة العقلانية التي تنحاز إلى مقولة الوطن أوّلاً والحب ثانياً، لا تتنازل عن أحدهما وإن كانت تناور بينهما، فتُشهر العاشقة سلاحها الناعم ودهاءها الأنثوي لإقناع حبيبها حسان، المعذَّب بين شجاعة رحيل موجع بلا عودة عن وطن فقد إيمانه به وخيار البقاء مطلوباً ومتخفّياً ومواجهة ذلّ التخفّي والانكسار والشقاء اليومي. يعبّر عنه قائلاً: “أيها الوطن، أنت لست أكثر من وهم شاق وعذب”.
رحاب، المرأة التي تبحث عن الحقيقة وتعمل على توثيقها، وتجهد في توصيف آلام السوريّين، غادرت سورية طفلة صغيرة، لا تذكر منها سوى الشوارع الرطبة الضيقة، والظلال الحالمة للمآذن، وأقارب كبار رحلوا عن الدنيا. يطرح الروائي، من خلالها، الموضوع المؤرّق: ما الذي يعنيه الوطن؟ فهي تارةً تؤمن أنّ “الوطن ليس إلّا مصادفة، قد يكون هنا أو هناك، لا مبرّر لجعله قدراً، لئلا يصبح مثل الموت قدراً، لا يمكن تجنبه”، وتارة تعتقد أنّ “الحنين مرض السوريين”، لكن يبدو أنّ العدوى أصابتها، عدوى الأوطان. هي لن تغادر، جاءت لتبقى. تقول: “هذه بلدي. لقد اكتشفت سوريتي، ولن أتخلّى عنها”.
صحيحٌ أنَّ الرواية، توثّق الألم وتهجو الفساد بسخرية لاذعة، تعرّي الواقع وتدخل دهاليز الأقبية وتنبش في خبايا القصور، لكنها في الجانب الآخر جرحٌ نازف يمتلكها أملٌ جارف إلى وطن لجميع السوريّين، وشغف إلى مآل يحضن آلامهم، ويحصن آمالهم على حد سواء، ليس هناك أقلية ولا أكثرية، لا فرق بين سومر العلوي وحسان السنّي وجبرائيل المسيحي، هي صرخة تدعو السوريّين للنجاة بأنفسهم، والخروج من نفق علقوا فيه.
(العربي الجديد)