حدث هذا في صيف أوائل عقد الثمانينيات…
هل اليوم، شبيه بالأمس؟ لا، لن يشبهه في شيء، وإن أحالنا إلى تشابه يؤشر إلى زمنين متداخلين، يمهد أحدهما للآخر، لا يغفل أن مياهاً كثيرة مرت تحت الجسر، عبرت خلالهما غيوم مراوغة سماء المدن السورية، إلى أن أتى اليقين، والأحزان التي ما بعدها أحزان.
لو تذكرنا، نحن السوريين، أننا حين كنا نعيش بتناغم مع أسطورة الهدوء الكاذب، كانت الأرض تهتز من تحتنا، ثمة أمور كانت تجري في الخفاء، ما سيفقد الحياة طراوتها وهناءتها، لندرك أنه لم يعد بالإمكان المضي في الاسترخاء اللامبالي، ونذهب إلى أحداث كابوسية كارثية، حوادث غامضة، تفجيرات، اغتيالات، اعتقالات الفجر، غليان مكبوت، زادته التكهنات والشائعات الصفراء تأججاً، إشارات استفهام عالية الإنذار، وحالة من الخوف والترقب والقلق تسيطر على الجميع. ولم تكن مدينة حمص بمنأى عن هذا الجو المخيف.
كنت أعمل في إحدى المؤسسات التابعة للدولة، حدث بارز هزّ سماء المدينة الهادئ، أعلن نادي ديك الجن الشهير عن قدوم المغنية الفرنسية جين مانسون لإحياء حفلة غنائية فيه. هبّ الحماصنة المحبين للحياة والفرح، والمتشوقين لتغيير الجو العام الكئيب، للحجز والتسابق لشراء التذاكر، التي قيل إنها بدأت بالنفاد، لحضور الحفلة المثيرة، كنت وصديقاتي من بينهم. سرعان ما بدأت الإشاعات تتجمع وتتوارد، تكهن الكثيرون كالعادة، أنه من الصعب في هذا الجو الملبد تحييد المشاكل الأمنية، التي تتصاعد وتيرتها، أن تمضي الليلة على خير، وجزموا أن تفجيرات ستحدث في مكان الحفل. كانت مفردة تفجيرات هي الكلمة السائدة وقتها. قلقت لهذه الأخبار والإشاعات كغيري، ورأيت أنه من الأجدى إلغاء الحجز، وعدم الذهاب إلى الحفلة المنتظرة.
أذكر أنني كنت في غرفتي في المؤسسة التي أعمل فيها، كانت مليئة بزملاء العمل ومن بينهم زميل، كان مديرا في إحدى الدوائر الحكومية، غُضب عليه لسبب ما، وكان هذا شائعا، فنقل إلى مؤسستنا، وأصبح زميل طاولة لا أكثر ولا أقل، يمضي وقته في مراقبة الجميع، والحديث بإسهاب عن تاريخه العريق، وخدماته الجليلة للوطن، في انتظار أن يحل الرضى وينال الحظوة، ويعود إلى مكانه المرموق، كما كان وربما أكثر. ولأنني حمصية حقيقية، وأعتقد أن يومها كان يوم أربعاء، أمسكت التليفون بحمية واتصلت بصديقتي بثقة، وقلت لها بين الجد والمزاح:
«هل سمعت، يقال إن حفلة نادي ديك الجن ستُلغى، الأفضل إلغاء حجزنا».
«هل بسبب الإشاعات؟» تساءلت صديقتي بصوت هامس حذر.
قلت لها باستغراب واستعلاء من يدعي العلم والمعرفة:
«نعم يقال إن هناك حوادث قد تقع».
«حوادث، مثل ماذا؟».
أجبتها ببساطة وعفوية:
«هناك من يتحدث عن تفجيرات قد تحدث!».
وأغلقت الهاتف على خير ما يرام.
في نهاية الدوام، استدعاني مديري المباشر، كان أقرب ما يكون إلى زميل وصديق أكثر منه مدير عمل، ما زلت أذكر حتى الآن المشهد، أغلق الباب فورا، أخذ يذرع الغرفة جيئة وذهابا، وجهه أصفر، وشفته ترتجف، ونظرة عينيه زائغة تحاذر أن تقع على عيني، توقف أمامي فجأة، باغتني بصوت مرتجف:
«ما الذي أدليت به اليوم من تصريحات؟»
خاطبني بهذه العبارة الرسمية الفخمة تحديدا!
«تصريحات!».
رددت عبارته باستغراب، لم تكن هذه المصطلحات الضخمة، قد دخلت حياتنا بعد.
«نعم، أدليتِ بتصريحات اليوم في غرفتك، من هاتف المؤسسة، في الساعة الحادية عشرة» ردد مؤكداً.
كنت قد نسيت هاتف إلغاء الحفلة تماما!
«صرحتِ بأن هناك تفجيرات ستحدث في نادي ديك الجن، في ليلة حفل المغنية الفرنسية، من أين لك هذه المعلومات؟»
ذهلت، لم يكن يمزح، كان جادا وغاضبا، بل كأنه لا يعرفني، ونحن زملاء نتناول القهوة معا في الصباح، ونتشارك سندويشات الفلافل والحمص.
قال في اقتضاب وهو يدير ظهره، إنه مضطر لتشكيل لجنة تحقيق في الأمر.
من سوء حظي، أنه في اليوم ذاته، تم الإعلان فعلًا عن إلغاء حفلة جين مانسون لدواعي أمنية.
عدت إلى بيتي وأنا في عالم آخر، وأخبرت عائلتي بما حدث، وتأهبنا للأسوأ.
تشكلت اللجنة، وبدأ التحقيق، قيل لي إنه تحقيق أولي، ولاحقا قد أتحول إلى فرع الأمن، اللجنة كانت مؤلفة من المديرين، الذين كانوا أصدقاء، نتبادل دعوات فنجان القهوة الصباحية، والمزاح والأحاديث. فجأة لم يعودوا أصدقاء، ولا زملاء عمل، حتى ولا مديرين، لم يكونوا أكثر من محققين. اختفت الابتسامات والتحيات، تناسوا المزاح البريء الذي كنا نبتدعه مع زميل بخيل، اعتدنا المزاح معه، وسرقة قرص المعمول من درجه، الذي يأكله في الخفاء، بعيدا في الردهات.
كانوا غاضبين وجديين بوجوه كالحة مربدة ومكفهرة. صدقوا أنفسهم أنهم لجنة أمنية، لبسوا لبوس الحالة تماما، كأنهم قضوا عمرهم في تحقيقات أمنية، ودفاع مستميت عن حقوق الوطن التي تجرأت أنا المواطنة العادية على الاعتداء عليها. ابتدعوا أسئلة، تحدثوا عن مؤامرة، استعرضوا تاريخ الوطن، بل وزادوا أن علينا أن نهب جميعا للذود عن البلد المستهدف وحمايته من المؤامرة الاستعمارية الغاشمة. استعملوا لهجة خطابية وكلمات طنانة رنانة، أصروا على أن لديّ معلومات، يتوجب عليّ الإدلاء بها فورا، وإلا سأحال إلى الفروع الأمنية.
غشي الوجوم جو المؤسسة، وركن الجميع إلى أماكنهم، أغلقوا أبوابهم، محاصرين بهواجسهم، كنت أرقب هذه الكوميديا الساخرة، التي تجري أمامي ومعي غير مصدقة، وكأنني أتفرج على مسرحية تجري على مسرح اللامعقول، نحن أبطالها، مجرد دمى تتحرك، لا تتمرد، ولا تعرف أن تقول لا، إزاء كل هذا العبث.
لا أعرف إن كان من المؤلم، أو من المضحك، أنهم كانوا يعرفون الحقيقة في قرارة نفوسهم، وأن الأمر لم يكن أكثر من مجرد حديث عابر بريء، لا خلفيات له، لكنهم لا يجرؤون على التغاضي عن التقرير الذي سارع، زميل الطاولة المغضوب عليه، إلى تدبيجه بسرعة من اعتاد على هذا الأمر، بتقرير شديد الخطورة، أكد فيه أنني استعملت هاتف المؤسسة للإبلاغ عن حادث تفجيري قد يقع في مبنى نادي ديك الجن، في ليلة حفلة المغنية الفرنسية.
حمص الصغيرة، كلها عرفت بالأمر، انتشرت الإشاعات والأقاويل بسرعة البرق، وانهالت الاتصالات تسأل، إن كنت ما أزال في البيت أو قبض عليّ، البعض قال إنهم قد حلقوا لي شعري، والبعض جزم أنني قد اختفيت، وجاء صديق محام وقدم خدماته، وأوصاني أن أبقى في البيت ولا أخرج.
عصر اليوم التالي، رن جرس التليفون في بيتنا، جاءني صوت أجش غريب يحشرج، يطلب أن أذهب للقائه، لأن لديه معلومات، يريد أن يقدمها لي، وهددني إن لم آت بالويل والثبور وعواقب الأمور. حسم أخي الأمر، وقال لن تذهبي وليحدث ما يحدث. عشت وعائلتي حالة رعب وقلق حقيقي، لم يكن بالإمكان إزاحة كل الاحتمالات التي قد تحدث، في جو بدا عدائياً وأنا بلا حماية، لكن بما أن كل شيء يحدث بكلمة واحدة من متنفذ خطير، لُفلفت الحادثة، وأعلنت لجنة التحقيق العظيمة أنني بريئة، وأنني لم ولن أعتدي على الوطن، ولست إلا حمصية ثرثرت في يوم الأربعاء.
أستطيع اليوم أن أتفهم معنى ما حدث، أدعي أنني أصبحت أتقن معرفة تناقضات الطبيعة الإنسانية، التائهة بين كل المتناقضات، واعذرهم.
إنه الخوف! نعم، الخوف ببساطة
القاتل المتواطئ الخفي
أمام سطوة غول الخوف، تصبح مجرد أحمق صغير، يخاف حتى من خوفه
الكل يريد أن ينجو، أن يختبئ أمام عاصفة حتى لو كانت من ورق.
(القدس العربي)