سيد محمود: “زهران القاسمي”: أدبنا يربط البيئة العمانية بالأسئلة الإنسانية الكبرى

0

ينفي الروائي العماني زهران القاسمي الفائز بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) لهذا العام، شيوع اللغة التقريرية في روايته “تغريبة القافر” التي فازت بالجائزة التي تبلغ قيمتها 50 ألف دولار، عطفاً على 10 آلاف دولار أخرى حصل عليها بعد أن وصلت روايته إلى القائمة القصيرة.

ويؤكد القاسمي في حديث مع “اندبندنت عربية” أجري في أبوظبي عقب تسلمه الجائزة، أن كل ما جاء في الرواية جاء على لسان الشخصيات، وليس على لسان الراوي العليم، كما أنه مرتبط ببيئة النص ونسقه الثقافي الذي تم استقباله وفق محمول غرائبي لصيق بالبيئة العمانية المتنوعة في جغرافيتها وتراثها بكل ما له من خصوصية. يقول:  “من ينظر إلى بيئتنا من الخارج يراها غرائبية، بينما لا نراها نحن كذلك، ونتصرف معها باعتيادية. فبعض العادات لدينا ينظر إليها البعض كـ”أعاجيب أسطورية”، وهي ليست كذلك”.

والقاسمي هو أول عماني يفوز بجائزة البوكر العربية، من مواليد عام 1974، وهو شاعر وروائي، حصلت روايته “القناص” على جائزة الإبداع الثقافي من الجمعية العمانية للكتاب والأدباء عام 2015، وإضافة إلى هذين العملين سبق أن نشر ما يقرب من 12 عملاً شعرياً وسردياً متنوعاً بين الرواية والقصة القصيرة منها: “سيرة الحجر” و”جبل الشوع” و”الأعمى” و”موسيقى” و”جوع العسل”.

fb1a3d6d8c1654609eb95fe58e3993bdd16d0b11_591960.jpg

الرواية الفائزة بجائزة بوكر العربية (دار مسكلياني)

في حيثيات فوزه بـ”البوكر” أعلنت لجنة تحكيم الجائزة برئاسة الروائي المغربي محمد الأشعري اختيار “تغريبة القافر” لكونها “اهتمت بموضوع جديد في الكتابة الروائية الحديثة، وهو موضوع الماء في علاقته بالبيئة الطبيعية”.

وأضاف الأشعري في بيان اللجنة: “قدم الكاتب لنا هذا الموضوع من خلال تآلف مستمر بين الواقع والأسطورة، من خلال بناء روائي محكم ولغة شعرية شفافة ومن خلال نحت شخصيات مثيرة تحتل دوراً أساسياً في حياة الناس، وفي الوقت نفسه تثير نفورهم وتخوفهم. وقد استطاع أن يقربنا من مسرح غير مألوف للرواية المتداولة في العالم العربي، هو مسرح الوديان والأفلاج في عمان وتأثير العناصر الطبيعية في علاقة الإنسان بمحيطه وثقافته”.

يوضح القاسمي في حديثه أنه التفت إلى قوة تأثير نظام الأفلاج كنظام للري في عمان، لأنه يهتم بالأفكار الوثيقة الصلة بالبيئة العمانية، ويقول: “بدأت رحلة بحث طويلة لأدرك أن هذا النظام له كثير من الأبعاد الاجتماعية، ويكرس أنماطاً من العيش، لا صلة لها بـالغرائبية، بل على العكس تتسم بنزعة واقعية تماماً ذات خصوصية تستحق التأمل”.

تكريس عماني

وعلى رغم الإقرار بالطابع الواقعي للنظام الاجتماعي الذي يناوشه النص الروائي، فإن القاسمي يشير إلى أن الرؤية الفنية التي أرادها، تحافظ على بنية تخيلية في بناء الحدث، وتأمل مصائر الشخصيات واصفاً “القافر” بـ”الشخصية الفريدة” في “الأدب العربي المعاصر، فهو رجل يسمع الماء داخل الأرض الصحراوية ويحدد موضعه عبر علاقة متفردة مع الماء، أقرب إلى التآخي معه”. ويلفت إلى أن الجانب اليومي والمعيش يغري بطبيعته، فتتصرف شخصيات الرواية مع ما يطرحه الواقع من خيارات ولا تقوم بـ”أسطرته” مطلقاً.

image.png

الأفلاج المائية التي استوحاها الكاتب (صفحة أفلاج – فيسبوك)

ويكرس فوز زهران القاسمي بـ”البوكر” العربية ازدهاراً واضحاً يعيشه الأدب العماني، فقد نال عمانيون خلال السنوات الخمس الأخيرة جملة من الجوائز المهمة: حازت جوخة الحارثي على البوكر العالمية في عام 2019 عن ترجمة روايتها “سيدات القمر”، وكذلك فازت بشرى خلفان بجائزة “كتارا” عن روايتها “دلشاد” التي نافست كذلك على “البوكر” العربية خلال العام الماضي، وهذا العام فازت عائشة السيفي بجائزة أمير الشعراء في أبوظبي.

يوافق القاسمي على أن جيله يحظى بعديد من فرص التكريس، في منصات الجوائز العربية الكبيرة. ويرى أن أهم ما ينجزه هذا الجيل هو كونه يلعب دوراً في الانتقال بالأدب العماني من الفضاء التقليدي القائم على تحقيق التراث والنظر في التاريخ والجغرافيا، إلى فضاء أكثر معاصرة وشمولاً، يربط البيئة العمانية الفريدة بالأسئلة الإنسانية الكبرى.

يضيف زهران: “جيلي كله في أعمار متقاربة، ولدنا جميعاً في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، وتشربنا الثقافة التي كانت قائمة ولا تزال، ولكن بفضل رغبتنا في اكتساب مزيد من المعارف، غامرنا باكتشاف تجارب أخرى تتخطى ما كان قائماً بالفعل”.

ويتابع قائلاً: “ساعدنا على ذلك وجود أسماء شعرية في جيل السبعينيات اتسمت بنزعة طليعية تجريبية كانت مؤثرة مثل تجارب سيف الرحبي وسماء عيسى وزاهر الغافري ومحمد الحارثي، كما أن ظهور مجلة “نزوى” في التسعينيات بتوجهها الطليعي، أثمر تبني اقتراحات جمالية جديدة وساعد على اكتشاف عديد من التجارب المهمة عربياً وعالمياً. بفضل مجلة “نزوى” سعينا للتفاعل مع ما نقرأ، وإلى جانب ذلك بدأنا إبراز تجاربنا بقدر أكبر من الثقة، فقد وجدنا أرضاً مهدها جيل السبعينيات الذي كان في معظمه من الشعراء، وتعزز طموحنا بفضل هؤلاء، لتقديم منجز سرد تجديدي، يظهر اختلاف الحالة العمانية”.

تطوير الإرث

يضم جيل زهران القاسمي أسماء أخرى منها سليمان المعمري وبشرى خلفان وهدى حمد وليلى عبدالله ويحيى المنذري، وبحسب تأكيداته فقد سعى إلى “تأمل الإرث التقليدي للأدب العماني آملاً في تطويره. وقد توافرت بعض الظروف الموضوعية لتجعل من النصوص والمصادر التراثية المحققة مصابيح أضاءت تاريخ عمان، وقدمته لنا بالهوامش والمتون التي نبهتنا لخصوصية بيئتنا”.

لا يجد القاسمي مبرراً فنياً للنظر إلى اللغة في روايته الفائزة بـ”البوكر” بوصفها “لغة شعرية”، مؤكداً أن “اللغة في أعماله السابقة (جبل الشوق/ القناص) لم تتحمل مثل هذا الاتهام، لأن همومها كانت مختلفة، إذ تساءل البعض: أين ذهبت لغة الشاعر الذي نعرفه؟”.

يقول زهران: “أتحسس دائماً من وجود هذه العلاقة بين اللغة الشعرية واللغة السردية العادية، بل قاومت لفترات تسرب لغة الشعر إلى السرد. وفي “تغريبة القافر” بالذات، ليست اللغة شاعرية بالمعنى الذي يأتي على حساب السرد، لكنها تحفل بالجماليات التي تدفع القارئ إلى هذا الاعتقاد”.

ويضيف: “لا أتكلم هنا عن تهويمات لغوية، لأني حاولت الاستفادة من الشعر في كتابة الرواية وطعمت لغتي بكثير من الصور الشعرية كشكل من أشكال الترصيع السردي”. وينفي وجود نزعة تقريرية في الرواية خلافاً لما يظن البعض ويقول: “هناك روايات عالمية ناجحة جداً، لا يعيبها وجود لغة تقريرية فيها، وكثيراً ما تكون هذه اللغة هي الخيار الفني الذي أراده صاحبها، أو ربما كانت تقنية سردية كما في لغة صنع الله إبراهيم على سبيل المثال، أو داخل غالبية أعمال التشيكي ميلان كونديرا التي ينتقل فيها من الذات إلى الجماعة ثم إلى التاريخ والفكر الفلسفي، أو تأملاته حول الموسيقى والبناء السردي، ومع ذلك لم تتهم رواياته بالتقريرية”.

منافسات قوية

يدعو القاسمي القراء الذين تابعوا الجدل حول جائزة “البوكر” في أحدث دوراتها، إلى قراءة كافة الأعمال الروائية التي تنافست على الجائزة، مؤكداً “جدارتها الفنية” واستحقاق مؤلفيها للفوز بالجائزة في ظروف أخرى، و”لو تغيرت لجنة التحكيم”، معتبراً النتيجة تعبيراً عن ذائقة أعضاء اللجنة”. ويقول: “الروايات المتنافسة كانت على درجة كبيرة من الإتقان، وكان يكفيني أن يظهر اسمي في اللائحة إلى جانب أصحاب تجارب روائية مهمة”.

ويضيف: “بشكل شخصي أعجبتني رواية (أيام الشمس المشرقة) للروائية المصرية ميرال الطحاوي ذات الخبرة والعطاء المتميزين، بفضل لغتها السلسلة وطريقتها في رسم الشخصيات، كما أن العالم السردي فيها اتسم بالتنوع والثراء. وأعجبتني كذلك فكرة رواية (الأفق الأعلى) للسعودية فاطمة عبدالحميد، والتفاصيل المثيرة في رواية (منا) للجزائري الصديق حاج أحمد”.

خارج التوقعات

يشدد صاحب “تغريبة القافر” على أنه لم يتوقع الفوز بالجائزة نظراً لقوة المنافسة، فقد أجمعت المتابعات الصحافية والنقدية على قوة الأعمال الموجودة في القائمة القصيرة، وفي ظل وجودها كما يقول: “كان من الصعب توقع الفوز، لكن الأمر الأكيد أن لجنة التحكيم انتهت إلى قرارها وعرضت مبرراته أمام الجميع”. 

يسخر زهران القاسمي من الفكرة التي ترى أن الجوائز الأدبية في الوقت الراهن تعبر عن ظهور مراكز ثقافية جديدة تحول العواصم القديمة من مراكز إلى هوامش. ويوضح: “لا يجوز الحديث في الأدب عن مركز أو هامش، لأن الجوائز تمنح الأدب العربي استحقاقاً، وطموحها تطوير هذا الأدب. ربما كان هذا الكلام صالحاً للاستعمال قبل 30 عاماً، أما اليوم وفي عصرنا الذكاء الاصطناعي، فتغيرت الأمور بفضل الإنترنت، ونجحت مواقع التواصل الاجتماعي في تهيئة كثير من الفرص للوجود والانتشار، ثم جاءت الجوائز وما يصاحبها من اهتمام ونقاش واسع، لتسهم في تغير قواعد المنافسة، ومن ثم في الالتفات إلى نصوص وتجارب لم تكن معروفة أو مطروحة للتداول من قبل”.

ويتذكر القاسمي أنه بعد فوز جوخة الحارثي بالبوكر العالمية لترجمة روايتها “سيدات القمر”، طرح أحد القراء على مواقع التواصل الاجتماعي سؤالاً ساخراً في تغريدة وسأل: “أين تقع عمان؟”. ويضيف: “أما داخل أوساط المثقفين فإن هناك من يعتقد أن الدولة لدينا تضخ كثيراً من الأموال لكي تضع الأدب العماني في الصدارة، بمنحه الجوائز وفرص للترجمة إلى لغات العالم. وهو تصور نمطي شائع عن المجتمعات الخليجية، وللأسف يصدر عن مثقفين ويتجاهل كم المعاناة والجهود التي يتم بذلها من الكتاب أنفسهم، لتأكيد جدارة نصوصهم على صعيد فني وطموحهم في الكتابة عن مجتمعاتهم بأمانة”.

وإجمالاً، يؤكد زهران القاسمي أن الجوائز أفادت الأدب العربي، على رغم كل ما يصاحبها من انتقادات حول وجود علاقات أو مؤامرات وتوجهات لـ”تسليع الأدب” أو إثارة نعرات شوفينية أو مناطقية. ويقول: “على رغم سلبيات هذه الحروب الصغيرة، تظل الجوائز مهمة في تسليط الضوء على تجارب مختلفة. والمؤكد أنها أوجدت نوافذ للترويج لأعمال إبداعية جيدة. ولولا هذه الجوائز لتأخرت فرصنا في التعارف والتواصل. وأنا أتصور أنها ستساعد الناشرين على بعث الحياة في أعمالي السابقة، سواء في الرواية أو الشعر وتأتي لها بقارئ جديد لم يكن يعرفها”.

*اندبندنت