سومر شحادة: في تحرُّر الكاتب من سُلطة الاعتراف

0

يبحث الفنّان عن الاعتراف، وهو يحتاج إليه كي يُرضي أناه المبدعة، وكي يشعر بجدوى ما يكتب، وبأنّه موجود وثمة مسوّغٌ يأتي من خارجه ويفسّر له استمرار عمله. لكنّ هذا الحديث مرتبط بالبيئات المثاليّة؛ أي بالأمكنة التي يمكن للمرء فيها أن يكتب أو يرسم ما يريد، وينشر ما يريد، ويقرأ له النّاس حيث يعيش، ويشاهدوا لوحاته أو الأفلام التي يصنعها. حتّى تمكن المخاطرة بالقول: يكاد أن يكون السعي لنيل الاعتراف جزءاً من عمل الفنّان، حتّى لو لم يكن واعياً لذلك، إذ يستمرّ عمله من خلال نيله الاعتراف، ويشحذ طاقته، ولربّما ينمّي مخيلته عبر التفاعل الحرّ مع الآخرين.

غير أنّ الحال مختلف في البيئات القمعية، حيثُ يعلو الصوت الواحد فوق أيّ صوتٍ آخر. إذ يُمكن للاعتراف أن يمثّل شبهةً، فالمُستِبدّ لا يعترف إلّا بصوتٍ يشبهه، يدنو منه، يتقرّب إليه، ويصبّ في خدمته. بالنسبة إلى أنظمة الصوت الواحد بتنوّع أشكالها، مطلوبٌ من الفنّ أن يكون مطيَّة. عدا ذلك، فما يُقدَّم خارج تآلف الأصوات، التي لا تعدو كونها صدىً للصوت الواحد، ليس فنّاً؛ بل قد يكون الاختلاف جنحةً جنائية توجب الاعتقال والأحكام القضائية والإقصاء عن المجتمع. حيث يقتصر الاعتراف بالفنّ على المنع، والاعتراف بالفنّان من خارج الجوقة المتجانسة يكون بالاعتقال والتقييد. وهذه حكاية قديمة مشهود لها بدرجات تتراوح بين التهمش والقتل، مروراً بالنفي والمنع.

ومن أكثر مواقف الإقصاء مرارة هي تهميش الفنّان الذي لا يتآلف مع الجوقة المُتجانسة، والإصرار على عدم الاعتراف بهِ خارج التهديد. ما يجعل الفنّان يطوّر بدوره أدواتٍ من داخل فنّه، كي يدافع عن أصالته وعن مشروعه. وقد ينشغل أحدهم بإثبات جدارته، وبأحقّيته بالاعتراف أُسوةً بالآخرين، عوضَ أن يبني على اعترافٍ مؤكَّد كان يمكن أن يناله من القرّاء. والحديث هنا عن بيئات تمنع القراءة خارج سلطة الرقيب وسياسته.

لا يقلّ التهميش، بالنسبة إلى مَن يعيش تحت سلطةٍ تقمعه، عن المنفى في صياغة موضوعات المُهَمَّش، إذ غالباً ما يكتب المرء عمّا يشغله، عمّا ينحت وجوده وأدبه، وعمّا يهدّده ويهدّد قيمه الإنسانية بالزوال. وبينما تنمو موضوعات النوستالجيا لدى الكتّاب الذين اضطروا للعيش في المنفى، تحضرُ في أدبيات الكتّاب تحت القمع الموضوعاتُ التي تبحث عن ملمح خارج الجوقة المُتجانسة، كالحديث عن حركات مقموعة، وعن أبطال خارجين من السجون أو قضوا فيها. لأنّ مَن يعاني التهميش يبحث عن انتمائه لدى فئات مهمَّشة، سواء في التاريخ أو في الواقع. وعن طريق إعادة تصديرها في الفنّ، يبدو الكاتب وكأنما يبحث لنفسه عن اعتراف غائب. لكن عندما يكون الكاتب والفنّان في سعيٍ مرير لنيل الاعتراف، قد يُمضي جزءاً من مشروعه في حيّز ليس ضّيقاً، بقدر ما هو مفروض عليه بواسطةِ آليةِ الأدب الدفاعيَّة التي تنحتُ العالم بصورة أفضل لعيش الإنسان.

لقد عاش دوستويفسكي يشكو عدم اعتراف الكتّاب الروس من أترابه بأهميته وبأنّه – مثلهم – كاتب من الدرجة الأولى. ولم يأتِ اعتراف تولستوي بهِ إلّا بعد وفاته. أخالُ أنّ على الفنّان أن يتحرَّر من سلطة الاعتراف. كما لا يعيق الكاتب أو الفنّان أن ينتظر اعترافاً، فالقراءة بذاتها اعترافٌ مثالي، كونه لا يجيء من نظام أو مؤسسة تمويليّة أو جائزة. أيضاً يأتي الاعتراف من داخل الفنّان الذي يعرف أنّ لديه ما يقوله، ولديه ما يجعل الفضاء العام الذي يعيش فيه، فضاءً تسوده العدالة وحرّية التعبير. فالاعتراف مسألة ينبغي أن تبدأ في العالم الداخلي للفنَّان، قبل أن تأتي من خارجه. 

“العربي الجديد”