يسرى زبير، كاتبة وإعلامية وناشطة نسوية من قامشلي تقيم في ألمانيا
مجلة أوراق العدد 13
قصص
في وسط الدجى كانت تسير في خوف، يدب قلبها الصغير. ترتجف حينا وتبكي في صمت حينا آخر، وهي مرتعبة من عتمة الليل الذي يخيم بسواده، فتخيل لها بأنها تسير في واحة مسكونة بالأشباح.
أضاعت ما كان معها من ثمن الخبز، وهي في حيرة من البحث عنه. تدعو الله بأن ينير لها ولو قليلا من النور، لربما تجد ما أضاعته، في محاولات يائسة من البحث. تقودها خطواتها الصغيرة لترجع بها أدراجها، عسى ولعل أن تعثر على نقودها، تسير في خوف وهي تلوم نفسها، وخيوط العتمة تداعب مشاعرها الصغيرة فترتجف أوصالها..
تبكي بصمت وترتعش بصمت…
وتبقى جامدة عندما تلوح لمخيلتها صور لأشباح تخرج من بعض زوايا الشارع الضيق، فتلصق نفسها بالحائط الطيني في رعب وخوف، وتسمع دردشات الأشباح من المارين من أمامها، يا لها من مسكينة:
أليس لديها أهل؟
ماذا تفعل هذه الملاك الصغيرة في منتصف هذا الليل؟
سأل عدد منهم، محاولين التقرب منها، لكنها كانت تفرَّ هاربة بحذائها نصف المنتعل برجليها الصغيرتين، كي تحميهما من حشرات الليل!
تسير متأوهة وهي تقول:
الحمد لله! لقد تخلصت منهم، وترفع يديها الصغيرتين إلى السماء، وهي تدعو مبتهلة:
رباه، ساعدني حتى أعثر على نقودي وخلصني من الأشباح في هذا الليل البهيم!
ماذا تفعل.. وهي تسمع أصواتاً قوية تهز وجدانها الصغير في رعب مع صرخات لا إرادية تبدر عنها؟
الكهرباء مقطوعة والمولدات تنطفئ في الساعة الثانية عشرة ليلاً، وبعدها يخيم السواد الداكن على الحي.
تسير بخطى مرتبكة وهي ترتجف، وتحاول أن تُجمّع قواها…
نعم أنا لا أخاف الليل وسوف أخبر أمي بالحقيقة:
تلك النقود التي اكتسبتها من جراء تحضير وجبة الغداء لبيت جانو قد ضاعت مني
نعم سأخبرها!
وفجأة تجذب ذاكرتها البريئة صورة أخيها الرضيع. صوت أمها:
إياك أن تضيعي هذه النقود فنصفها ثمن خبزنا والنصف الآخر ثمن اللبن الذي سنطعم به أخاك الصغير.
تستعيد المشهد وتستذكر وصية أمها:
تستسلم أمام ارتجافات الروح والدموع تبلل وجنتيها الصغيرتين:
نعم أخي الحبيب بيار سيبكي كثيراً، لقد ضيعت المئة ليرة الورقية التي كانت معي. خمسون ليرة منها ثمن الخبز والخمسون الأخرى ثمن اللبن.
حبيبي الغالي ستبقى كل يوم غد جائعاً؟؟!
لقد تعبت أمي حتى حصلت على هذه النقود.
نعم تعبت وهي تحمل أخي الصغير بيد، وتحضر الطعام بيدها الثانية لبيت جارنا الضابط الغني!
لماذا يارباه نحن لسنا مثلهم أغنياء.
تبكي، وتردد في حسرة:
لو كان أبي على قيد الحياة لما تعذبت يا أمي ولم يكن أخي ليجوع.
تولول سولين وتتمتم في سرها.. ينقشع الظلام رويداً رويداً وهي تسير بخطى صغيرة الى الأمام ويحتل خدر النعاس جسدها الضئيل، والمارة يحثون الخطى، وفي أيديهم أرغفة الخبز التي تملأ رائحتها الشارع كله!
ثمة إحساس بالجوع ينتابها، ولكنها تبعده.
إنهم يمرّون ولا يبالون بوجودها.
وينقشع الظلام، وخيوط الفجر ترسم لمخيلتها في السماء صوراً لكائنات جميلة، لها أجنحة سحرية، وكأنها تداعب روحها الحزينة، وهي تقترب من المنزل، وفي وهلة يتردد إلى مسمعها صدى صوت بكاء أخيها الصغير. تبكي. تحترق في داخلها من الحزن، وهي في حالة لا يتحملها عقلها الصغير:
أخي بيار سيبقى اليوم كله جائعاً..!؟
تسمع فجأة دوي أصوات قوية كأنها نتاج التقاء الرعد والبرق مع في السماء.
ثمة فجر آني يرتسم. يتحول الليل إلى نهار، وفي لحظة الصياح والنواح، تختفي الطفلة الصغيرة من الوجود، ويتحول جسدها الصغير إلى أشلاء.
إنها قنبلة…… ؟!
من أين جاءت… ؟
إنهم الأوغاد يخيفون المدنيين لترك منازلهم كي يرحلوا…..
ثمة طلقات نارية تُسمع. يَهرع المارة إلى بيوتهم وتبقى أشلاء جثة سولين الصغيرة مرمية على الأرض، وأخوها الصغير يبكي جوعاً، ووالدتها الأرملة لا حول لها ولا قوة وهي تصرخ:
ابنتي لم تعد من الفرن يارباه؟
لم تعد سولين بعد…..!
وتبقى في حسرة يمزق الخوف أحشاءها وهي تهدئ من روع وجوع طفلها. تهرع الى الشارع حافية القدمين، لتبحث عن سولين…