حوار: رشا أحمد
«للطب فضل كبير على كتابتي فقد فتح لي أبواباً واسعة على الواقع».
تستلهم الروائية سوسن حسن في أعمالها الواقع السوري بتحولاته الحادة وتغيراته العنيفة في السنوات الأخيرة. لكن صاحبة «ألف ليلة في ليلة» و«النباشون» و«خانات الريح» مشغوفة في روايتها الجديدة «اسمي زيزفون»، تذهب بعيداً في الزمان فترصد إيقاع الحياة في مدينة «اللاذقية» مرتع صباها وأحلامها، التي تتمتع بمكانة خاصة في أعمالها. وسوسن حسن هي طبيبة أصلاً، قبل أن تغادر سوريا وتستقر في ألمانيا منذ سنوات مستبدلةً بمشرط الطب والجراحة مشرط الأدب.
هنا حوار معها حول روايتها الجديدة، والمحطات التي مرت بها روائيا وحياتياً.
> ترصد روايتك الأخيرة «اسمي زيزفون» تحولات المجتمع السوري في ستينات القرن الماضي، ما مبررات العودة لتلك الحقبة الزمنية فنياً؟
– في الواقع هي ترصد تغيّرات المجتمع السوري، بخاصة الساحلي والريفي، منذ تلك الحقبة إلى عام «كورونا»، في محاولة لفهم هذا التاريخ، وكيف تأثّرت حياة الشعب، منذ هزيمة يونيو (حزيران)، ثم إجهاض كل محاولات النهوض، منذ أن استوطن اليأس النفوس مترافقاً مع أنظمة استبدادية شلّت الحياة السياسية وشلّت المجتمعات إلّا بما يخدم مصالحها بالدرجة الأولى، فتركت هذه الشعوب تعيش حياة القاع المديدة، إلى أن وصلنا لهذه المرحلة من الجحيم الحارق.
> استلهمتِ طويلاً عالم المهمشين في أكثر من عمل حتى بات يشكل «ثيمة» أثيرة لديك…
– رواياتي في مجملها تستلهم شخصياتها وأجواءها من الحياة العادية، حياة البسطاء من الناس، تنشغل بالقضايا والمشكلات المجتمعية، سواء تلك التي كانت موجودة قبل السنوات العشر الماضية، أو ما كشف عنه الواقع خلالها، وما طرأ على المجتمع من انهيارات قيَميّة وسلوكيّة ومعرفية وغيرها الكثير. «اسمي زيزفون» هي روايتي الثالثة خلال الأزمة السورية الراهنة، وفيها أتابع ما كنت قد بدأته من تعرية الواقع وكشفه، مثل مريض على سرير الفحص الطبي، في محاولة لإثارة الوعي العام في وجه ما، بما مورس عليه من إهمال وتضييق وتضليل، بهذا السياق تتشارك روايتي الأخيرة مع ما قبلها.
> لكن الرواية تستعيد بشكل خاص الكثير من طقوس ومفردات الحياة اليومية الحميمة في «الضيعة» بسوريا قبل عقود، هل هو نوع من الحنين؟
– كل كتابة عن الماضي فيها قدر من الحنين، حتى لو امتلك الكاتب ناصية الحيادية والموضوعية، لكن بالنسبة للرواية هذه، ليس الحنين ما كان وراء الكتابة التي وصفتِها بالحميمة، فأنا لم أعش في الريف قط، فقط كنتُ أزور بيت جدّي لأبي في طفولتي زيارات متباعدة، وكانت الحياة بتفاصيلها وغرابتها بالنسبة لي تسحرني في حينها وتركت الكثير من الصور والمشاهد في ذاكرتي، إنما الكتابة هي التي فرضت أحداثها وأجواءها وأسلوبها ولغتها أيضاً. الرواية تحكي قصة فتاة من هذا الريف منذ طفولتها، لذلك فإن السرد سوف يُعنى بتفاصيل وطقوس ذلك المجتمع وكيف تغيّر مع الزمن، مثله مثل أي بقعة في سوريا.
> في روايتكِ «قميص الليل» ترصدين أزمة الانقسام الطائفي وثنائية «نحن وهم» التي تهدد النسيج الاجتماعي في المجتمع، لكن يأخذ عليكِ البعض تناولكِ هذه الجزئية بشكل مباشر، كيف ترين الأمر؟
– تقولين «البعض» وهذه قراءة من القراءات التي هي أمر بدهيٌّ بالنسبة لأي نص روائي، الكاتب يكتب ولكل قارئ قراءته، أمّا الرواية فهي كُتبت في نهاية عام 2013 وكانت الانهيارات في حينها قد وصلت إلى حد رأيناه آنذاك منتهى ما يمكن أن توصل الحربُ البلادَ إليه، وكان الغطاء قد كشف واقعنا المتهتك، وانكشفت أمراض المجتمع المتجذرة ومنها الانقسامات الكثيرة؛ طائفية أو قومية بشكل أساسي، التي كانت «مكبوتة» بفعل القمع، بينما في الحقيقة هي كانت أحد مظاهر مجتمع الظلّ بمكنوناته المتشكّلة عبر الزمن، وتجذره في سوريا، كل ما فعلت الحرب أنها جعلتها تطفو على السطح. ما كان يعد سابقاً من المحرمات «التابو»، صار الناس يتلفظون به علناً، وأصبحت الطائفية أحد أهم عوامل الفتنة والحرب والانقسام، والحديث فيها صار متاحاً وبغزارة، تم الاشتغال عليها من كل الأطراف الضالعة في مأساة الشعب السوري. الرواية أساساً قائمة على هذه التيمة التي حملت النص، بل تبدأ بمشهد موت المتشرّد «جيغا» المقيم في الحارة منذ سنوات حتى ألفه الناس ولم يخطر في بال أحد أن يسأل عن دينه أو طائفته، إلى أن جاءت لحظة الحقيقة، لحظة موته التي شكّلت معضلة بالنسبة لسكان الحارة، لأنهم لم يسألوا عن دينه وطائفته قبلها، واشتعلت الفتنة فيما بينهم أمام سؤال: على أي طائفة يجب دفنه؟ هذا هو الواقع الذي كان موّاراً في تلك الفترة، لذلك حضرت الطائفية والانقسام الذي تتحدثين عنه، وهي صور واقعية لما بات طافياً على السطح بغزارة «هم ونحن».
> برأيكِ هل سقط قسم المثقفين السوريين في مستنقع «الطائفية» أيضاً، بعد أم كانوا يساريين أو ليبراليين؟
– لا يمكن التعميم، إنما للأسف طالت البعض منهم اللوثة الطائفية وانزلقوا إليها، وهذا كان بسبب مضاف أيضاً، أن بعضهم استُقطب سياسياً وصار متاحاً بوفرة على الشاشات وفي الصحف ومختلف الوسائط، وكانوا، يدرون أو لا يدرون، يروّجون لأجندات سياسية. ربّما تسارُع الأحداث ومآل الحراك وانزلاق البلاد إلى العسكرة والأسلمة والعنف والعنف المضاد، استثار العواطف ونبش النزعات وضعضع المناعة لدى البعض، وهذا أمر يمكن تفهّمه. المثقف في النهاية إنسان وله نوازعه ونقاط ضعفه، ولو كان مطالباً بمناعة أقوى، هذا الأمر شهدناه في التاريخ لدى النخب في أماكن كثيرة، حيث وقف بعضهم مع النازية ومع الفاشية… مؤسف أن ترى بعض المثقفين المحسوبين على اليسار، ومنهم من دفع أثماناً باهظة في نضاله ضد الظلم والقمع وتكميم الأفواه والفساد، أن ينزلق إلى اصطفاف من هذا النوع أو غيره في موقفهم من الأحداث على نحو لا يليق بتاريخهم، أو أن يفقدوا بوصلتهم التي وجهت طريقهم في يوم ما.
> عشتِ معظم حياتكِ في سوريا بمدينة «اللاذقية» ذات الخصوصية الجغرافية والتاريخية… إلى أي حدٍّ يتردد صدى المدينة في أعمالكِ؟
– أنا من مواليد دمشق، عشت فيها طفولتي الأولى، وغادرتها ثم عدت إليها مرة أخرى حتى منتصف المرحلة الإعدادية، من بعدها استقرت أسرتي في اللاذقية، حيث تفتحت مداركي، وأتممتُ أغلب مراحلي التعليمية، وفيها أمضيت عمري المهني. لقد شغلتني الأسئلة بينما أغوص في لجّة حياتها، اللاذقية المدينة البحرية العريقة، التي عانت من الظلم والتهميش وتنمّر الكثير من رموز السلطة أو المحسوبين على النظام بحق ناسها، مع ذلك كان المجتمع اللاذقي منفتحاً قياساً بالكثير من المدن السورية، ربما كونها مدينة ساحلية، ومتنوعة بما يخصّ الخليط السكاني، لم تنقطع علاقتي بدمشق إلّا بعد السنة الأولى من الحراك الشعبي، فلها أيضاً مكانة روحية لديّ، لكن معظم رواياتي تدور في فضاء اللاذقية، المدينة التي رغم بشاعتها وفوضاها كغيرها من المدن السورية، التي أحدثها الإهمال والفساد، راسخة في وجداني. مَن يقرأ في رواياتي سوف يرى حاراتها وأسواقها، ويشم رائحة زواريبها وأزقتها وبحرها، سوف يسمع لهجات ساكنيها، بل يمكن أن يسمع الهمس الذي لا يجرؤون على البوح به!
> انشغال الأدباء السوريين في المهجر برصد تحولات المأساة السورية التي تمتد على مدار أكثر من عقد كامل، ألا يمكن أن يهدد بتحول أعمالهم إلى «وثيقة ناقصة» حول حدث وواقع سريعَي التغير والتحول؟
– حتى في المهجر يتشكل جزء من الصورة الكليّة للمأساة، فالسوريون الذين غادروا تحت ضغط الحرب والدمار والتهجير والقتل، هم جزء من الشعب، وجزء من نتائج الحرب، ولا يمكن إغفال معاناتهم والهزات الارتدادية التي تلاحقهم، هم مرتبطون بوشائج عاطفية ببلادهم التي غادروها، ويتابعون بشكل آنيٍّ ما يحصل، نحن في عصر الإنترنت والتواصل اللحظي والوسائط المتعدّدة، حتى معاناة من هم في الداخل ينغمس فيها سوريو الخارج بمتابعتهم لها، ويعانون فوق ذلك من كل ما تجرّه عليهم غربتهم من أوجاع واضطرابات ومفارقات وتحدّيات وجودية. المأساة السورية إشكالية ومتشعّبة وتمتد خارج الحدود. لذلك يمكن القول إن ما يكتبه الأدباء وهم في الخارج جزءٌ أساسي من أدب الفاجعة السورية.
> أنتِ طبيبة بالأساس ثم قررتِ التفرغ للأدب، هل كان القرار سهلاً، وكيف ترين ثنائية الأدب والطب… إلى أي حد انعكست خلفيتك الطبية على أعمالك؟
– بالنسبة إليّ، لم يكن قرار هجري الطب والتفرغ للكتابة سهلاً، فقد كان يلزمه حدّ كبير من الشجاعة، وهذا هو سبب تأخّري في نشر أوّل رواية؛ الخوف من عدم تمكّني من المتابعة، لذلك لم أجمع بين الاثنين، لم أكن أملك الإمكانات التي تخوّلني لهذا الجمع، وكي أكون واضحة، فإن الكتابة في عالمنا العربي لا يمكن عدّها مهنة تؤمّن للكاتب معيشته، خصوصاً الكتابة الإبداعية، لذلك كان الطب مهنتي الحياتية، وهو يستهلك وقتي، وعندما صارت ظروفي مناسبة إلى حدٍّ ما، أغلقت عليه كمهنة وتفرّغت للكتابة. أما بالنسبة للعلاقة بين الأدب والطب، فهي علاقة تواشج برأيي، بما ينغمسان فيه من الهم الإنساني والمعاناة الإنسانية، ليس أقرب من الطبيب إلى مكنونات النفس، وبالتالي إذا توفرت لديه الموهبة والهدف والشغف في الكتابة، فلا بدّ أن يقدّم تجربة مميّزة.للطب فضل كبير عليّ في الأدب، فتح لي أبواباً واسعة على الواقع، الطب يقلّص المسافة بين الطبيب والمريض، بل يمحوها غالباً، وأمامه يتعرّى المريض جسدياً ونفسياً واجتماعياً، يقترب الطبيب كثيراً من النفس البشرية، خصوصاً أن المريض يأتي من تلقاء نفسه إليه، وغالباً ما يكون هشاً بسبب الألم، ومعاناته المتزايدة في مجتمعاتنا، يمكن للطبيب أن يقرأ المجتمعات من خلال مريضه، بحمولتها الثقافية وملامحها البيئية.
> تعيشين في ألمانيا منذ سنوات، ما أثر ذلك على كتابتكِ وأنتِ تعيشين خارج وطنكِ؟
– إنّها تجربة مربكة، خصوصاً أن الأمر لا يتعلّق بالذاكرة فقط، بل هو رجعٌ لحظي لما يحدث هناك، حيث يشعر المرء بأنه ترك جزءاً من روحه، ويحمل في داخله روحاً منقوصة، ارتباط معذِّب مع وقع الحياة هناك، وأسئلة تتوالد من نفسها في كلّ لحظة، أمام حياة أخرى يعيشها في بلد الغربة. رغم يُسر العيش في ألمانيا فإن هناك ما يشتغل عميقاً في نفسي، يجعلها مرتبطة عاطفياً مع الناس في سوريا، والأمر لا يتعلّق بسوريا وحدها، بل بكل ما يحاصرني، وغيري، من مآسٍ إنسانيّة وانتهاكات لبلدان وشعوب، خصوصاً منطقتنا.
في روايتي «خانات الريح»، التي صدرت 2018 عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب»، جانب مهم عن حياة السوريين في ألمانيا، انشغال بمسألة وعي الذات والعالم، العلاقة بين السوري والآخر الألماني، تصوّر لما يمكن أن تكون عليه كعلاقة تكاملية من دون تعالٍ أو سيطرة أو استتباع أو فوقية.
*الشرق الأوسط