يقول الروائي السوري نهاد سيريس في أحد حواراته الصحافية: “إن الرواية بنت التاريخ، وتسعى دائمًا للكتابة عن حدث ما، جرى وانتهى زمنه، إلّا إذا دخلنا في باب التنبّؤات وراح الكاتب يقدّم الرؤى المستقبلية، وهذا ليس من وظيفة الروائي”. دفعني هذا القول إلى سؤال الرواية واستشراف المستقبل، ومتى يمكن للأدب أن يستشرف المستقبل، إذا تجاوزنا مقولة النبوءة، مع أنها تليق بالأدب أكثر، بما تحمل في طياتها من معانٍ تقترب من الماورائيات، أو تميل إلى المجاز والشاعرية أكثر من الاستشراف القائم بشكل أساسي على دراسة المقدمات أو البناء على قاعدة بيانات، للوصول إلى نتيجة تبدو منطقية. فالنبوءة في القواميس هي الإخبار عن الشيء قبل حدوثه، وهي أيضًا تكليف إلهي لواحد من البشر، يختاره الله لتبليغ رسالته إلى البشر، والتنبّؤ هو استشفاف أو توقّع النتائج أو أحداث المستقبل قبل وقوعها عن طريق التخمين أو دراسة الماضي. أمّا الاستشراف فهو الإطلال من فوق، واستطلاع الأحوال وإمكاناتها في المستقبل.
يمكن القول إن الأدب كثيرًا ما كان مُلهمًا لعديدٍ من المعارف والاكتشافات تاريخيًّا، إن كان على مستوى العلوم أو على المستوى الاجتماعي والثقافي، وهناك العديد من الأعمال الأدبية التي كانت بمثابة أعمال سوريالية أو خيالية إنما حدثت واقعيًّا، أو ما يشبهها، بعد فترة زمنية، كما أن هناك من الروايات ما غاص في التاريخ وحفر عميقًا، في محاولة لفهم الحاضر، الذي هو نتاج ماضٍ تحقق، ومرشّحٌ في كل لحظة لأن يكون ماضيًا، ومن خلاله يمكن استشراف المستقبل بواسطة تلك النظرة الشمولية والعميقة في آن.
هناك الكثير من الروايات المستقبلية، أو التي استشرفت المستقبل، ربما أشهرها رواية جورج أورويل “1984”، التي كتبها في عام 1948، صوّر فيها الكاتب عالمًا ديستوبيًا بامتياز على الصعيد السياسي وانعكاساته الاجتماعية والإنسانية بشكل عام، محكومًا بنظام استبدادي شمولي، تقوم الحكومة فيه بالرقابة المطلقة والخانقة على الشعب ويحاسب الشخص حتى على أحلامه، في جمهورية الأخ الأكبر التي تحصي الأنفاس على الأفراد، وتحوّلهم إلى أدوات تتحرك تحت سيطرتها خالية من أي عاطفة أو طموح، وهذا يدلّ على قدرة الرواية على استشراف المستقبل من خلال دراسة الحاضر أو التاريخ في صيرورته. ومنها أيضًا رواية “عالم جديد شجاع” لألدوس هاكسلي التي كُتبت في ثلاثينيات القرن الماضي، يجري فيها صناعة البشر في المختبرات لتفصيل العالم كما يريد المتحكمون بمصير البشرية بعد أن وصل العلم إلى مستوى عالٍ من التقدم، فأصبح قادرًا على تلبية حاجات البشر العضوية من دون الزواج، وينقسم العالم إلى عدة مستويات أو طبقات بحسب التصنيف الجسدي والعقلي، وعلى هذا الأساس، وتحقيقًا لتلك الغاية، يُجرى تخليقهم في المختبرات، لكن هذا العالم الذي تصوره الرواية يكتم على الأنفاس بافتقاره إلى أهم ما يحتاج إليه الإنسان: المشاعر والعاطفة والروحانيات.
أما في الرواية العربية، فإن رواية “ثرثرة فوق النيل” الصادرة في عام 1966، للأديب المصري الحاصل على نوبل نجيب محفوظ، اعتبرها الكثير من النقاد والقرّاء رواية تنبّأت بالهزيمة، فالأصدقاء الذين يلتقون في باخرة على ضفاف النيل، يتعاطون الحشيش ويسكرون ويغيّبون وعيهم، ويأخذهم الحال والثرثرة إلى أن تبتعد السفينة في الماء من دون أن ينتبهوا إلى أنها تحركت أو غادرت موقعها، قد يصحّ بهم القول الشائع إن الماء يجري من تحتهم وهم غافلون. كذلك رواية اليمني حبيب عبد الرب سروري، الصادرة حديثًا، “جزيرة المطففين”، فإنها تصور عالمًا مستقبليًّا تتحكم فيه طغمة تقيم في جزيرة صغيرة، أدواتها هي التكنولوجيا الرقمية التي تستبيح الحياة بكل أشكالها، حتى تتدخل في الأجنة فتجري القطع والوصل في السلاسل الجينية من أجل صناعة أفراد مستقبليين كما تهوى هذه الطغمة، ويحققون للأفراد في جزيرتهم كل أسباب الرفاهية التي تغربهم عن إنسانيتهم من دون أن يشعروا، بل هم يعيشون في وهم الترف والحرية بينما يتنعمون بعبودية كاملة. وهذه الطغمة تدير الحروب في البعيد عنها وتسخّر مخرجات تطورها التقني في إضرام تلك الحروب وديمومتها، وتحاول صدّ أولئك الزاحفين الهاربين من جحيم حروبهم باتجاه الجزيرة، فتبقيهم خارج حدودها، على تخوم هذا العالم المترف
ومن الروايات العربية أيضًا رواية “الكوميديا الفلاحية” للروائي سيريس نفسه، ورواية “الصمت والصخب”، فكلتاهما تستبطنان رؤية مستقبلية لما يمكن أن تصل إليه البلاد وفقًا لما تصوّران من حياة تمور بكل أسباب الانفجار، وإذا كانت “الصمت والصخب” انشغلت بحاضر مدينة، هي حلب بشكل خاص، وأي مدينة سوريّة أو عربية تحت سلطة نظام ديكتاتوري، يحكم بقبضة أمنية راسخة ويغرس ثقافة وسلوك تأليه الفرد أو الزعيم، فإن رواية “الكوميديا الفلاحية” نبشت في التاريخ القريب، وليس البعيد جدًا لمدينة حلب، منذ فترة الانتداب الفرنسي إلى منتصف خمسينيات القرن الماضي، والتغير الديموغرافي للمدينة وما نجم عنه من تغيّر في كل أوجهها، من العمران إلى البنية المجتمعية إلى البيئة الحاضنة للثقافة المجتمعية وتمادي البداوة على بعض أوجه الحياة.
بعد أكثر من عشر سنوات على الحرب في سورية، والدمار الذي وقع في بناها المتعددة، المعمارية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، يعود السؤال مجدّدًا عن هوية المدينة السورية المستقبلية، والحديث هنا يجري عن مدينة حلب تحديدًا، لما لها من خصوصية تاريخية وحضارية، ولما طالها بسبب الحرب الدائرة من دمار لم يوفّر الحجر والبشر.
نهاد سيريس، ابن حلب، معروف بكتاباته الشغوفة بمدينته وتاريخها ومجتمعها العميق، إن كان من خلال رواياته أو نصوصه الدرامية التي عرضت على الشاشات، فمثلما قدّم في “الكوميديا الفلاحية” سرديّة عن موجات النزوح إلى حلب منذ فترة الانتداب الفرنسي، وتشكل المجتمعات الموازية القائمة على الريف والبداوة، ونموها وسيطرتها على بعض الأنشطة التجارية والخدمية في حلب، قدّم أيضًا في “أوراق برلين” سرديّة أخرى عن مدينته، يقابل فيها برلين ومصيرها غداة انتهاء الحرب العالمية الثانية وحلب في السنوات العشر الدامية، ويسعى إلى توثيق ذاكرة بصرية عن أسواقها وأحيائها وشوارعها ومساجدها، بشغف ومرارة، (أليس في هذه المقابلة نبوءة ما، فيما لو تتبّعنا مسيرة برلين منذ ذلك الوقت إلى اليوم وكيف صنعت مصيرها؟)، وكأن ما جاء في مقالة للباحث الحلبي جمال باروت منشورة في عام 2016، يصح عليه تمامًا، إذ يقول: “كأنني أتدفق الآن على غرار راوي مارسيل بروست في البحث عن الزمن المفقود، ما إن ارتشفت أول كأس على غرار روايته، وهي الرشفة التي حاول إنتاجها ـ تناصّيًاـ ببراعة فواز حداد في (صورة الروائي)، وشكّلت مفتاح أهمية عالمه الروائي، وكأن الإحساس العابر بؤرة لتفجّرات وانبجاسات نفسية ـ تاريخية مديدة. وفي ذلك يختلط الحلم بالواقع، والرؤيا بالتاريخ، والنفس بالمكان، والإحباط بالرجاء، فنحن في الزمن المدمر والمشروخ للحياة في حلب”. فهل يمكن فصل هذه الحالة القريبة من “الصوفية” في حبّ المدينة والارتباط العضوي بها، عن النبوءة المستقبلية التي نلمسها تدبّ وتتمادى ما بين سطور روايات سيريس؟ عندما تكون الكتابة متكئة على القلق، قلق العاشق أو المغرم أو الحبيب، لا يمكن فصلها عن رؤى تستبطنها ترنو إلى المستقبل، حتى إنه جاء على لسان الحكواتي في القسم الثالث لـ”الكوميديا الفلاحية”: الحياة يا إخواني تعيد نفسها باستمرار ولكن بأشكال أخرى، وستبقى الحياة تفعل ذلك وتشتعل الحرائق ويموت الناس حتى يأتي اليوم الذي فيه نعتبر من الحكايات التي نحكيها، وبما أن ذلك اليوم ليس قريبًا، فدعونا نكمل حكايتنا، عندها سيفهم الجميع مقصدنا فيقرّبوا ذلك اليوم.
حلب المدينة العريقة، منتهى طرق التجارة الكبرى قديمًا، وطريق الحرير المشهور، والمدينة الاقتصادية الأهم في سورية، التي يمتد تاريخها إلى أكثر من ألفي عام قبل الميلاد، شطرها “الأوباش”، كما يصفهم جمال باروت في مقالته تلك، إلى شرقية وغربية، “تتبادلان الحصار واللقمة والماء و… القصف”، بلى، هم أوباش النظام والميليشيا التابعة له أو الحليفة، والفصائل الأخرى التي صادرت الثورة والمعارضة وفرضت نفسها ممثلة للشعب، التي باتت لا تعد ولا تحصى في ظل الفوضى التي دفعت البلاد إليها بعد خنق ثورتها، وتكالب القوى الإقليمية والدولية على دخول الحرب في صراع مصالح بعيدة وقريبة، يقول أيضًا: “هدم (الأوباش) ما بنته أجيال خمسة آلاف سنة في غضون خمس سنوات، حيث أصبح كل شيء في خراب، ودمّر وجه المدينة التاريخي، ودمّر مجتمعها الذي كان يعاند كل أشكال الغزو كي يحافظ على حوامل هويته الحيّة العريقة في الوقت ذاته”.
لكن حلب كانت قد تعرّضت قبل ذلك إلى تحوّلات في بنيانها الحضري والمجتمعي، وهذا ما انشغلت به رواية “الكوميديا الفلاحية”، فمن المعروف أن موجات نزوح ازدادت وتيرتها من الأرياف إلى المدن، ومن المناطق الداخلية أو البعيدة عن المراكز الحضرية الكبرى باتجاه المدن الكبرى، وهذا ما أطلق عليه “ترييف المدن” وزيادة على ترييفها كان هناك في حلب بدونتها، أدت إلى تغييرات في هويات المدن العريقة، مثل مدينة حلب، وذلك بما نجم عنها من نمو سكاني ونشوء عشوائيات تحيط بالمدينة كسوار من البؤس، أو حتى صار بعض منها أحياء داخل المدن لها هويتها الخاصة، البعيدة أو المغايرة للشكل التاريخي الذي كانت تأخذه المدينة وتحاول في توسعها البناء عليه، كذلك ازدهار أنماط من النشاط التجاري غير المنظّم، يقوم به عدد من العاطلين عن العمل، المنحدرين من المناطق الريفية أو البادية، من خارج المجتمع المديني والحياة المدينية، ومارسوا أنشطة تجارية أو اقتصادية في غالبيتها بعيدة عن رقابة الدولة، وشكّلوا مجتمعات موازية تسودها وتنظمها قوانينها الخاصة القادمة معهم من حياتهم السابقة، من دون حماية أو دعم يذكر من السلطات الحكومية، وهذا ما انشغلت به “الكوميديا الفلاحية” بالضبط، وما لا يمكن إغفاله كمقدمات لما سارت عليه الأحداث الدراماتيكية وآلت إليه المدينة. فالنمو الحضري السريع والتوسع العشوائي للمدينة، مع ضعف اندماج المهاجرين القرويين في محيطهم الحضري واحتفاظهم بتقاليدهم الريفية الأصلية، وإهمالهم من قبل السلطات وانحدار مستواهم التعليمي والفكري وأمور أخرى أدّت إلى انقسام المجتمع الحلبي حول الثورة، بل منهم من التحق بجيش النظام وميليشياته، ومنهم من ذهب ليقاتل النظام فالتحق بداية بالجيش الحر، ثم مع الفصائل المسلحة التي بدأت تتكاثر وتكبر في المنطقة إلى أن وصلت الأمور إلى نتيجة كارثية بالنسبة للمدينة، وتم تدميرها بتلك الطريقة الهمجية على مدى عدة سنوات.
أمام هذا الواقع، وقد كُتب الكثير من الروايات خلال هذه السنوات، هل يمكن للأدب أن يكون متنبّئًا بمصير المدينة؟ هل يمكن أن يستشرف مستقبلها؟ هل يمكن تخيّل المجتمع الحلبي الجديد وحبك سرديات حوله؟ أعود مرة أخرى إلى ما أشار إليه نهاد سيريس، وربّما ليس من السهل على الروائي أن يتنبّأ، بشكل واعٍ، بمصير مدينة إشكالية كانت بؤرة مركزية للأطراف المتصارعة، ومطمعًا ربما من الجوار أيضًا، لكن بالعودة إلى حديثه مرة أخرى عندما قال: “لقد التجأت إلى التاريخ لأنني أعتقد بأن هناك تكمن الإجابات الصحيحة عن أسئلة اليوم، إن مهمة الروائي ليس سرد التاريخ، بل رصد شخصياته المتخيلة”. فهل يمكن اعتبار هذه العشرية الدامية التي مرّت فيها حلب تاريخًا، وهو ما زال حارًّا ونابضًا، يستطيع الراوي أن يحفر فيه ويطلق شخصياته تصنع مصيرها، فربما تحمل نبوءة ما؟
“إن الكتابة هي سعي الروح للتحرّر والانطلاق، وهذا لا يحدث إلّا في الحلم. إنني أحلم بعالم أجمل ولكن ليس بعيدًا عن بلدي وأهلي. إن كان علينا أن نفهم العالم فيجب أن نبدأ بفهم أنفسنا والمكان الذي نعيش فيه، ومن ثم علينا أن نجعله أفضل وأجمل، وهذا في الحقيقة حلم”- هذا ما قاله نهاد سيريس في النهاية، فليحلم الأدباء والمبدعون في بلادنا، علّ النبوءة تأتي في أحلامهم/ كتاباتهم، وتصحّ في مستقبل مدننا العريقة، كما حلب.
*ضفة ثالثة