السوري الذي نجا من الموت في رحلة لجوئه وتغريبته الكبرى المعاصرة، استقر به المطاف في وطن جديد وهو مترع بالأحزان والخيبات والذاكرة الموجعة. قالت لي سيدة تركت مدينتها ومرتع طفولتها وذكرياتها وبلد عائلتها أبًا عن جد عندما سألتها لماذا اختارت ألمانيا بلدًا للجوء: بعد أن غادرت حلب، كل البلاد مثل بعضها البعض.
في الواقع ليست كل البلاد أو الأوطان مثل بعضها البعض، صحيح أن هناك مشتركات في الحياة الإنسانية بين الشعوب، لكن لكل بلد خصوصيته الثقافية التي شكلتها تجاربه التاريخية، ومن هنا يمكن القول إن الصدمة الأكبر بالنسبة إلى السوريين اللاجئين هي صدمة الثقافة، ليس بمعناها النخبوي وإنما كإرث عام يصوغ الحياة ويسيّرها.
بالرغم مما توليه حكومات بلدان اللجوء، وخاصة ألمانيا التي استقبلت أكبر عدد من اللاجئين في أوروبا، إلى عملية الاندماج من اهتمام وعلى رأسها اللغة ثم التعريف بالقوانين الألمانية والحياة الألمانية، إلاّ أن هناك الكثير من المشاكل التي تظهر أمام اللاجئين من جهة، وأمام الحكومة من جهة أخرى. ومن المشاكل الشائعة ما يتعلق بأحوال الأسرة خاصة لناحية الزواج والطلاق ومن ضمنها تعدد الزيجات، كذلك ما يتعلق بالأطفال ورعايتهم وحقوقهم.
ما يميّز الحياة الاجتماعية في سوريا سطوة العادات والأعراف، والعيش بطريقة كثيفة تحت مظلة الماضي، واعتماد التربية بشكل أساسي على التلقين والتعاليم أو المواعظ والمفاهيم المنجزة، انطلاقًا من البيت في مراحل الطفولة الباكرة، مرورًا بالمدرسة التي يبدأ فيها إعداد الكوادر اعتبارا من المرحلة الابتدائية وصولاً إلى الثانوية بالتلقين وترديد الشعارات وحشو المفاهيم وتطويع الفرد بحيث يكون سلبيا ومتلقيا وغير قادر على المبادرة واتخاذ القرار، وحتى الجامعة التي لا تشذ عن هذا الأسلوب، ولقد جاء في بند سياسة التربية والتعليم في دستور حزب البعث: ترمي سياسة الحزب التربوية إلى خلق جيل عربي جديد مؤمن بوحدة أمته وخلود رسالتها، آخذ بالتفكير العلمي، طليق من قيود الخرافات والتقاليد الرجعية، مشبع بروح التفاؤل والنضال والتضامن مع مواطنيه في سبيل تحقيق الانقلاب العربي الشامل وتقدم الإنسانية، لكن في الواقع حتى هذه المفاهيم العامة الفضفاضة البعيدة عن الانشغال بأهم قضايا البناء وهي بناء الفرد ليكون عنصرا منتجا وفعالاً وخلاقا بقيت نظرية وتُرك المجتمع يصوغ منظومته التربوية بنفسه، متمسكًا بهويات ضيقة لم يسعَ “الحزب القائد للدولة والمجتمع” إلى إزالة الحدود بينها، ولم يقدم أدوات الاندماج بين المجموعات السكانية السورية. تضافر في هذا النمط أو النهج التربوي كل من النظام السياسي والاجتماعي والديني والتعليمي وغيره.
لا يزال الفيديو الذي لاقى مشاهدة كبيرة وأثار جدالاً واسعا في مواقع التواصل الاجتماعي عالقا في البال، وهو يظهر سحب دائرة الخدمات الاجتماعية في السويد ثلاثة أطفال سوريين لاجئين من منزلهم في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وسط نوبة هستيرية أصابت الأم وهي تصرخ وتبكي وتولول وتحاول منعهم من أخذ أطفالها.
لو درسنا هذه الظاهرة التي تتكرر في العديد من بلدان اللجوء الأوروبية ومنها ألمانيا، فلا بد من التوقف عند قضية مفصلية هامة يمكن إدراجها تحت مسمى الصدمة الثقافية، وهي حساسة في هذا المجال لالتصاقها بقضية الأسرة والطفولة التي تنظمها الأعراف والتقاليد في المجتمع السوري أكثر من القوانين والثقافة التي يُفترض أن يصبح فيها مفهوم الطفل ورعايته ومفهوم الأسرة أكثر تطورًا وإنسانية.
في سوريا تسود مقولة: يأتي الطفل ويأتي رزقه معه. مقولة اتكالية قدرية تستند إلى الطابع الديني للنظام الاجتماعي، وبناء عليه فإن الطفل هو تحصيل حاصل لحالة الزواج، لا يتطلب من الأبوين أي جهد في التفكير والتخطيط للحياة التي تنتظره والتي من حقه أن تكون مقوماتها الإنسانية متوفرة وأن يكون مستقبله مضمونا، بينما في الدول الأوروبية فإن الطفل مشروع بحد ذاته نادرا ما يقدم الأبوان على الشروع به قبل أن يكونا قادرين على تحمل المسؤولية تجاهه، ولأنه مشروع حياتي مهم ترى أن الأسر قليلة الإنجاب حتى إن معدل النمو السكاني يتراجع، مع هذا تبقى معظم هذه الدول محافظة على المستوى الذي وصلت إليه من النمو الحضاري، ذلك لأن الطفل هو ليس مشروع طفل فقط، بل هو مشروع فرد مستقبلي من الواجب على الأسرة ومن بعدها الدولة تقديم كل مقومات الحياة الكريمة ومقومات تكوينه وإعداده وفق أسلوب تربوي يقوم على ثقافة تتناغم من خلالها الأسرة ودور الحضانة أو المدارس، ويُصار إلى تعليم الطفل حقوقه وواجباته على حد سواء، أما الطفل في سوريا فيندرج تحت مفهوم الملكية، خاصة البطريركية، حتى لو كانت الأمومة بشكلها العاطفي فائقة التمظهر، انطلاقًا من كونه ملكية خاصة بالأسرة فالعرف والثقافة السائدة والبيئة الحاضنة لهذه الثقافة تمنح الأهل، والأب تحديدا حق التصرف بكل شؤونه واتباع الأسلوب التربوي الذي يراه مناسبا، والذي غالبا لا يعدو أن يكون غير تكرار أعمى لنمط تربوي سائد يجعل من العقاب وسيلة تربوية أساسية وحكيمة، العقاب الذي يعتمد على العنف بكل أشكاله من العنف اللفظي إلى الحرمان إلى الضرب، والضرب وسيلة شائعة. كذلك فإن تعليم الطفل على التفكير يبدو غائبًا تمامًا عن أسلوب التربية، بل يكاد يكون هذا الغياب غاية بحد ذاته انطلاقًا من البيت وصولاً إلى المؤسسات التعليمية بل حتى في جميع مرافق الحياة، فالنظام السياسي والديني يسعيان معًا ويشتغلان على تغييب التفكير وتضليل الوعي وزرع الأدمغة بمفاهيم جاهزة وفكر سائد يعلم الخضوع والخنوع والاتكالية، وعدم معصية أولي الأمر من الوالدين حتى الحاكم.
انطلاقًا من هذه القاعدة فإن كل أساليب العنف الأسري، سواء تجاه الزوجات أو الأبناء تبقى شأنًا خاصًا لا يتدخل أحد من المحيط من أجل إصلاحه أو السيطرة عليه، حتى لو كان القانون ببعض مواده يحفظ حق المدعي بحمايته من العنف فيما لو اشتكى، لكن سلطة الأعراف أقوى من سلطة القانون لذلك نادرًا ما يشتكي أحد من المستضعفين الأكثر تعرضًا للعنف: الزوجة والأطفال، كما أن القانون مخترق وفاقد هيبته والثقة به في نفوس الناس.
في المقابل هناك مؤسسات حكومية تدعي إصلاح النشء كتلك التابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل بما يخص الأحداث، لكنها كباقي مؤسسات الدولة في ظل الفساد لا تفعل شيئا سوى تعقيد المشكلة ومفاقمة أزمة هؤلاء الأحداث.
ولا يمكن أن نغفل الوعي المتدني والهشاشة المجتمعية التي كشفت عنهما وعرتهما سنوات الأزمة السورية، فظهر كم هائل من المشكلات المزمنة، من أبرزها وعي الذات ووعي الآخر والعلاقة بينهما، فما إن بدأت الانتفاضة السورية حتى بدأ التضليل الإعلامي واستجاب له الشارع السوري ليعبر الخوف من الآخر عن نفسه باكرا، يمكن الاستشهاد بدليل بسيط لكنه يعبّر ببلاغة وهو الإقبال الباكر على تركيب بوابات الحديد على مداخل بيوت السوريين، تلك التي تفصل بين الجار وجاره حتى لو كان هناك “عشرة عمر” بينهما ومصاهرات ونسب، كشف الواقع عن تعايش وهمي بين مكونات الشعب السوري، لم يعمل النظام الشمولي الذي رفع شعار العلمانية على تخليصه من بداوته وقبليته بالرغم من أن دستوره يعتبر أن “البداوة حالة اجتماعية ابتدائية تضعف الإنتاج القومي وتجعل من فريق كبير من الأمة عضواً فاشلًا وعاملاً على عرقلة نموها وتقدمها”. بينما لم يقدم البديل، علما بأن العشائر في سورية لديها في منظومة قيمها العديد من الجوانب الإنسانية، لكن النظام لم يعمل على جسر الهوة التي راكمها تاريخ من الانهيارات الحضارية، بين مكونات الشعب، ولم يشرك الشعب في عملية الحداثة التي فُرضت بفوقية عليه فزادت في إرباكه.
بناء عليه فإن اللاجئ السوري الذي وصل محمّلاً بما يفوق قدرته من المواجع والذاكرة المرهقة، خاصة ممن ينتمون إلى بعض البيئات التي عانت التهميش الطويل، أو تلك التي هربت من ويلات الحرب فقد فرض حوله ستارًا واقيًا يحول بينه وبين التأثر بالمجتمع الجديد، بالآخر الأجنبي الذي يعتبره البعض كافرًا ولن يقدم له غير خراب أسرته وأطفاله، وتحصن ضمن هذا الجدار يمارس هويته ربما بطريقة أعنف وأكثر حزمًا. أراد حماية أسرته وأطفاله بالمبالغة بأسلوب التربية الموروث، بالعنف بكل أشكاله، ولم يقتنع بقوانين البلد المضيف الذي يحمل عنه مسبقًا صورة نمطية تثير الرعب في نفسه بما توفر من أسباب الانحلال والتفكك الأسري، فكانت النتيجة هذا الموقف الذي تناقلت مشاهده بكثافة وسائط التواصل الاجتماعي وأثار ضجيجًا وسجالاً حارًّا حول قضيته.
الحضانة أمر مختلف في مجتمعات الدول الأوروبية المضيفة، والطفل مشروع مواطن، بينما في ثقافة الأسر اللاجئة يختلف الوضع، فلا مكان لحقوق بشكل عام، ولا معنى لكلمة مواطن إلا كترداد أجوف في الخطب الرسمية، لذلك عندما أتى موظفو الرعاية الاجتماعية ليأخذوا الأطفال الواقعين تحت العنف من أسرتهم كانت ردة فعل الأم عنيفة أيضًا، قاومت بشراسة معتبرة الموقف عملية اعتداء على خصوصيتهم وهويتهم، بينما كان الموظفون يقومون بواجبهم وفق القانون في دولة مؤسسات وقانون.
الصدمة الحقيقية أو الأولى والكبيرة للاجئ هي صدمة ثقافية بالدرجة الأولى، مع الإشارة إلى أنه لا يمكن إغفال الإنجازات التي يحققها الكثير من السوريين في البلدان الجديدة أو المضيفة، وهذه نقطة تحسب إليهم فبالرغم من فداحة المخاطر التي تعرضوا إليها ومن الموت المحدق بهم، يبقى السوريون طالبي حياة.
مادة خاصة بموقع الرابطة