في شوارع برلين المحفوفة بالأشجار والزهور، بينما كنتُ أتسكّع فيها كغريبة تبحث عن شيء ينقصها كي تشعر بالانتماء الراسخ إلى المكان، اقتحمتني رائحة كما لو أنها قادمة من الماضي، لا أستطيع القول إنها أضرمت حنيني، فما أحدثته من اضطراب لدي أمر مختلف، قد يكون مستبطنًا حنينًا ما، إنما المشاعر التي انتابتني كانت مختلطة بسؤال راح يكبر حتى امتلأت به، إنها رائحة “عطر الليل”.
شجرة عطر الليل التي تنمو في كثير من جنائن البيوت السورية، كريمة حدّ الإبهار، مع انسحاب الشمس من الأفق، تبدأ الشجرة زفيرها من دون ضجيج، تتسلّل إلى المساءات وتعتلي النسمات فتسافر إلى أقاصيها، شجرة كريمة، توزّع عطرها بلا تمييز ولا حدود.
اعتراني شعور عارم بنشوة جعلت من كياني خفيفًا مثلما لو كنت أطير مع النسمات المضمّخة بعطر الليل، ورغبة قويّة بأن أشارك الآخرين بالرائحة، أنا الوحيدة الغريبة التي تتسكّع في مدينة غريبة. لماذا لا أستطيع مشاركة الآخرين بهذا العطر؟ كنت، كغيري، ألتقط الصور لما يلفتني إن كان لناحية الجمال أو لطرافة في مشهد ما، أو حدث أكون سباقة في إشهاره أو مشاركة الآخرين به على مواقع التواصل، هذا ما يحصل معنا اليوم في عصر الصورة والوسائط المتعددة والتقنيات الذكية التي تمنحنا إمكانية التزامن أو المحايثة، هواتفنا الجوالة في أيدينا، نلتقط ونوثّق ونشارك الآخرين، أصدقاءنا الافتراضيين وغير الافتراضيين، بما حصلنا عليه، بما شاهدناه، بما نشعر به، بما نفكّر به أيضًا.
كيف أستطيع مشاركة عطر الليل الكريم هذا مع أصدقائي الافتراضيين؟ بأي كاميرا وأي جهاز صوتي يمكنني التقاط رائحة وبثّها في فضاء افتراضي وجعلهم يلتقطونها وتستثير فيهم أحاسيس ومشاعر، قد تكون مبهجة، أو على الأقل تحدث لديهم تجربة خاصة؟ فكّرت بكتابة نصّ سردي صغير عن هذه التجربة أثير به خيالهم، لكن كيف يمكنني أن أحثّ الأحاسيس على استعادة التجربة إذا لم يكن الشخص قد عاشها قبل ذلك، كفعل منعكس شرطي مثلما يحصل معنا عند تذكّر الطعم الحامض مثلًا؟ هناك أشخاص لا يعرفون عطر الليل، ومهما قرِأوا عنه لن يستطيعوا امتلاك خبرة التعرف عليه من رائحته إذا لم يشمّوها.
للرائحة مجالها الذي تعبّر عن نفسها فيه، إنه المجال الحسّي، فنحن نلتقطها بأنوفنا بواسطة حاسّة الشمّ، لتُضاف خبرتنا بها إلى باقي الخبرات التي نراكمها خلال حياتنا، وتساهم في تشكيل هويّتنا، لكن كيف تُترجم الروائح من لا وعينا إلى وعينا؟ كيف تعقد علاقاتها مع باقي أجهزة حواسنا وتشاركها في صياغة هذا الوعي؟ للأمر علاقة بالفيزيولوجيا والبيولوجيا والكيمياء وعلم الأمراض، والثقافة والموروث أيضًا، فما يمكن أن تؤثر به الرائحة على المزاج والوجدان والوعي مختلف بين شخص وآخر، وبين ثقافة وأخرى. في روايتي الأولى “حرير الظلام” كان بطلها ضريرًا، يعيش الحياة منقوص الحواس بفقدانه البصر، وكان عليه أن يشكّل رموز وعيه وفق هذه الحالة الحياتية، ساعدته أمّه بفطرتها وحبّها في تشكيل منظومته المعرفية، فعندما سألها ما هو اللون البيض؟ جمعت كومة من أزهار الياسمين وألقتها في حرجه وطلبت منه التركيز على إحساسه وهو يشمّ الرائحة، ثم طلبت منه أن يلمس الزهرة، وأخذت تحكي له عن زهرة الياسمين الرقيقة التي تتضوع بعطرها فتطلقه في الآماد، ثم تهمي بخفة وصمت، وعندما سألها عن الأحمر، قرّبته من موقد الحطب ليشم رائحة احتراقه مقرونًا بالدفء والسخونة التي ترافقها، فهل نجحت الأم بمساعدة ابنها الضرير كي يشكّل رموز الألوان في وعيه ويدركها؟
في المقابل، نحن نعيش في زمن الصورة والرمز والتجريد، تسود فيه الحاسة البصرية والسمعية على باقي الحواس، بل وتُستهدفان أيضًا، صارت هناك علاقة جدلية بين الرمز والواقع في عصرنا الحالي، فدائمًا هناك نماذج تُصنع وتُشهر وتسوّق في مفارقة إلى حدّ ما عن الواقع، تعمل في الوقت نفسه على التحريض على حاجات جديدة وفق صور ورموز مسبقة، لتجتاح العالم نسخ متطابقة لا أصل واقعي لها، فهي نسخ عن تصميمات ونماذج أولية لا تعكس ما هو موجود سابقًا أو ألفناه، تغرقنا حتى إنّنا بتنا نحتار بين واقعيتها والواقع الفعلي. سيل من الصور والرموز واللغة التي لا أصل لها، بدأت تغرقنا، نحن المستهدفين، كي نكون سوقًا يستهلك إنتاج أرباب العولمة ورؤوس الأموال. ليس هذا فقط، بل صرنا مرتبطين بلوحة المفاتيح، وبتقنيات التواصل كتابة وسمعًا وصورة حركية، حتى بتنا ننفصل بالتدريج عن واقعنا، وباتت تتشكل لنا هويّات جديدة وميول جديدة وجماليات مختلفة.
لكن ماذا عن الشمّ؟ الأنف، هذا العضو الصغير الذي يتوسط وجوهنا، يُظلم في هذا العصر، وربما على مرّ العصور، لكنّه يبقى مترفّعًا عن الشكوى والاعتراض، بالرغم ممّا أصابه من اعتداء شرس من قبل الفيروس العدواني الذي يتغوّل في العالم اليوم، كورونا، بما يسلبه من أهم ما يميّزه: الرائحة، وهو الذي حمل معاني العزة والكرامة والشموخ والكبرياء لدى العرب والعديد من الشعوب، بل اختصرت هذه القيم بما يُنسب إليه بكلمة “أنفة”، وشكّلت الروائح والعطور موضوعًا مهمًّا في الشعر العربي، فكان حاضرًا لدى الشعراء قديمًا، ثم تحوّل إلى رموز ودلالات في الشعر الحديث، إلى أن أصبحت مكوّنًا من مكوّنات الشعر لدى شعراء الحداثة.
عندما نقرّب وردة تفوح بعطرها المنعش، أو نقرّب قارورة عطر إلى أنوفنا، فإننا نغمض أعيننا لنكبح سطوة العين المضلّلة، نترك الرائحة تتغلغل في أعماقنا كموجة من الضباب الجميل، لا تأخذنا نحو المعاني، بل تطلقنا نحلّق فوق أجنحة المشاعر، ترخي لأرواحنا العنان فتطير إلى حيث تحملها، وتصنع معانيها الأخرى، نستحيل إلى كائنات من ألوان وموسيقى، وتنطلق أنفسنا في رقصة مع كلّ ما حولها، نغرق في بحور النشوة، نصل القيعان ونطفو، والعطر يسري كما الرجفة الناعمة في أرجائنا، ينحلّ في نسغنا، إلى أن نفتح أعيننا فنتوه من جديد عن الرائحة وتدخلنا العين في الارتياب.
للجسد رائحته، جسد بلا رائحة جسد أخرس، عندما وعى جان باتيست غرونوي، بطل رواية “العطر” لباتريك زوسكند، أن جسده أخرس بلا رائحة هاله الأمر، شعر بالاضطراب، كمن يقف على جرف شاهق فوق أرض زلقة يكاد أن يهوي، وراح يبحث عن وجوده متمثّلًا في رائحة، صار هدفه ومعنى حياته أن يكثّف وجود الأشخاص ويختصره في رائحة، رائحة الجمال في أجساد الجميلات. لا حياة بلا رائحة، بلى، الرائحة دليل حياة حتى في أبشعها، دليل حياة بكل أطوارها وأمزجتها واختلالها، لا يستطيع الطبيب أن يزيحها من أولويات أدواته وهو يعاين مريضه، فلا يكتفي بحواسّه الأخرى، بل يستعين برائحة المريض في توجهّه نحو التشخيص، فهناك الحماض الخلوني، وهناك رائحة السمك يشي بها عرق مريض الكبد، ورائحة عطنة للأقدام المصابة بالفطور، ورائحة السنّ التي يستقصيها طبيب الأسنان، وغيرها عديد من الروائح الدالّة.
حتى الحجر، فيما يبدو عليه من فقدان الحياة، لديه رائحته الكامنة يمكن لأصحاب الأنوف الموهوبة التقاطها كأرنست بيكس، العطار الروسي الذي أبدعت موهبته عطر شانيل 5 بعد أن غادر روسيا إلى فرنسا والتقى بكوكو شانيل، ووصفه بأنه من وحي البحيرات وشمس الليل، فمن يجرؤ على شمّ “شمس الليل” غير مجنون بالروائح؟ للبيوت روائحها الخاصة، للمطابخ، لغرف النوم والمعيشة والحديقة، للبناء الذي نسكنه، والذي يسكنه غيرنا، للحي، للشارع، لمكان الوظيفة، للصباح روائحه والظهيرة والمغرب والمساء، للشتاء والصيف، للخريف والربيع، تشكل الرائحة مع خبراتنا المتراكمة جزءًا من هويتنا، وتقبع في مكان عميق في ذاكرتنا، مرتبطة بما راكمناه خلفنا من ماضٍ حافل بالحياة لم نكن لنلتفت إليها وإلى تفاصيلها الصغيرة لولا أن فقدناها، أو حضور قرينة في البال. جزء من الحنين لمهاجر أو لاجئ أو غريب تحرّضه الروائح، رائحة عروسة الزعتر، لمهاجر سوري أو لبناني أو فلسطيني، وهي تعيد إلى البال صباحات أيام المدرسة والضجيج الذي يملأ البيت وصراخ الأم تستحثّ أولادها كي يستعجلوا، وصوت الراديو، وضجيج الشارع وهو يستقبل الحياة بكل امتلائها، أو ورق العنب في موسمه يفوح من شبابيك البيوت، أو عطر يصطدم بأنفه يذكّره برائحة شوارع مدينته عند الغروب أو في المساءات، وربّما تستثير رائحة النفايات العضوية في الصيف ذكريات الشوارع العامرة بأكوام الزبالة بعد أن تكون القطط بعثرتها، فغادرها لكن الصورة والرائحة لم تغادراه.
معظم الكائنات الحيّة تتعرّف على بيئتها بالشم، تلتقط أمزجة الطبيعة وتستشعر الخطر باكرًا بواسطته، تتواصل بالرائحة، تداعب بعضها بعضًا وتتحابب بالشم، تبدأ طقوس تزاوجها بأنوفها. حتى الكائن البشري، هذا الجبّار الذي امتلأ غرورًا وإحساسًا بتفوّقه وقد سطا على الطبيعة بالاستناد إليه، الذي يأنف أن يقرّ بالاعتراف بأن هناك ما يشترك به مع المخلوقات الأخرى التي تعتبرها أدنى، فإنه مرتهن للرائحة، في بناء علاقته مع من وما حوله، وما عبارة “هناك كيمياء” بين الأشخاص غير دليل على أهمية الرائحة في هذه العلاقة، خاصة بين الشريكين في حالة عاطفية، فالجسد يفصح عن نفسه بالرائحة التي تقرّب الإنسان من الطبيعة وتفسح المجال لغريزته التي يحاول تهذيبها كما يقتضي إحساسه بالتفوّق.
جدّتي كانت تحشر قطفات الحبق أو زهرة القرنفل أو الفل في عبّها كي تمتزج بما ينتج من جسدها ويمتزج بعطره، كانت تضع الصابون المعطّر بين الثياب المطويّة في الخزانة، وكانت ترشرش زريعاتها وتتحرّش بها كي تفوح بعطرها، هي الرائحة إذن، التي شغلتني في تسكّعي، وأشعرني بالضيق عجزي عن اعتقالها بأي طريقة وبثّها في الفضاء الأزرق، أتباهى بها على صفحات أصدقائي الافتراضيين، وأنتظر أن يشاركوني تجربتي الحسية والمشاعر التي استيقظت في أعماقي عندما انهمرت عليّ سحابة من عطر الليل، الرائحة التي لم تستطع الرقمنة ترويضها واحتواءها، بقيت عصيّة على القنص إلّا في قوارير العطّارين وفي بوتقة الخيميائي، الرائحة التي تسلّلت إلى الرواية، ومنها الرواية العربية التي صدر كتاب حديث حولها للباحث التونسي رضا الأبيض يحمل عنوان “كتابة الرائحة في نماذج من الرواية العربية”.
لكنّ هذا الفيروس اللعين، كورونا، سطا على أنوفنا، وفرض علينا لبس ما يحول بينها وبين الروائح، الكمّامة أو الماسك، حتى أوشك أن يصير جزءًا من وجوهنا، ما يجعلنا قلقين مع الزمن من أن يغيّر من طبيعتنا البشرية وسلوكنا مع أجسادنا ومع الآخرين، حتى من أن يتمادى على أكثر حالاتنا حميميّة، القبلة والعناق، وإغماض العينين لاستنشاق رائحة من نحبّ، لنطلق حواسّنا الأخرى متحرّرة من سطوة العين، ونمارس حقّنا في المتعة والوجود كبقية الكائنات. كورونا المستبد متحالف مع إمبراطورية العصر، إمبراطورية العولمة الرقمية، التي تبتلع حياتنا في دوّامتها، لكنّها لا تفسح مجالًا للروائح كي تعبّر عن نفسها في مجتمعاتنا الافتراضية، مع أن “عطر الليل” رائحة تليق بها المشاركة الجماعية.
(ضفة ثالثة)