في حوار مع الكاتب الفرنسي إريك إيمانويل شميت، سألته الصحافية: هل ستعود إلى هناك؟ ردّ عليها: مرّة واحدة تكفي. بعد أن نلتقي بالحب اللا مرئي نتدبّر أمرنا بهذه الهدية. وتقصد بهذا الهناك صحراء تمنراست في الجزائر، والهدية هي “ليلة النار”، أو تجلّي الإيمان، اللحظة السرية التي عرف فيها الله في تجربة صوفية فريدة عاشها، وكانت روايته التي تحمل نفس الاسم، صدرت بترجمة السورية لينا بدر عن دار مسكيلياني، 2017.
القلب والعقل في تآلف، أم يجب كبح جماح العقل وترويض حريته؟ وبأي عين ننظر إلى الخالق، بعين العقل الذي يشكك، أم بعين القلب؟ فماذا لو دخلنا تجربة التجلي العظيمة كما “ليلة النار”، التي حصل ما يشبهها مع بطل رواية “آيس هارت في العالم الآخر” للكاتب المصري محمد بركة بعد روايته البديعة “حانة الست”؟
في “آيس هارت في العالم الآخر” الصادرة حديثًا عن منشورات “إبييدي” في مصر، يأخذنا الروائي في رحلة تمسك الأنفاس مع بطل الرواية، الفنّان التشكيلي “مروان”، إلى العالم الآخر، وهذا الموضوع شغل الأدب والفنون في مختلف بقاع الأرض، وعلى مرّ الأزمان، أشهرها في التراث العربي رحلة ابن القارح التي تخيّلها أبو العلاء المعري في “رسالة الغفران”، لكن الأمر مختلف في رواية “آيس هارت”.
هو رسّام في بيئة محافظة، يحترق مرسمه في “الحسين”، وتحترق معه قطته الحامل “آيس هارت”، فيشمت أبناء منطقته به ويعتبرون أن الحريق عدالة من السماء بسبب رسومه العارية، ويلقبونه بالابن العاق، أو ابن أمه، عارض رغبة والده في دخول كلّية “ذات وجاهة” وانتسب إلى كلّية الفنون الجميلة، فغضب والده “ألقى الأب/ الفرعون تعويذته الشريرة… اذهب فلا أنت ابني ولا أعرفك”، كذلك أخوه يقاطعه، بالرغم من أنه الأخ الأصغر ومصاب بعيب خلقي في القلب، عاش انطوائيًّا شاحبًا نحيلًا، لم يمت بسبب علّته لكن ربما “يموت كمدًا في بلد يستهجن الفساد ويلتمس العذر للفاسدين”. أخوه الذي قالت عنه أخته هدى: “من يوم ما أطلق لحيته وطلعت له علامة الصلاة وحياتنا بقت مرار”…
تبدأ الرواية بإخباره بموت والده، الوالد الذي دخلت أراضيه في المخطط العمراني فجنّت أسعارها وتحوّل إلى ملّاك كبير، اشترى بيتًا يطلق عليه اسم سراي، وتمادى بمساحته الواسعة والتشكيل الهندسي المحيط به على الأراضي الزراعية، مستفيدًا من الفساد في عهد “الرئيس المؤمن”.
بين الطريق إلى الإسماعيلية في الذهاب إلى بلدته من أجل دفن والده، والعودة في الطريق نفسه، تحكى كل الحكاية، ونتعرف إلى رجلين في شخص واحد، قبل الانتقال وبعده، إذ يولد من جديد.
الأمر استغرق اثنين وأربعين دقيقة، هي المدة التي غاب فيها عن الوعي بسبب احتشاء في العضلة القلبية أدى إلى اختلاج بطيني، أسعف بسببه إلى المستشفى وتعرّض لصدمات كهربائية وأدوية داعمة للقلب حتى استعاد نظمه الطبيعي، استرجع فيها حياته وقرأها من جديد باحثًا عن معناها، وعن سبب فشله، وهو الذي لم يقم بمعرض واحد خلال عشرين سنة، وعن انطوائيته وميله إلى الانتحار.
نص حافل بأسئلة فلسفية
ينهض السرد منذ البداية على قضايا فلسفية، فهذا الفنان الذي يشعر بالغرابة والغربة في موقف موت والده، ورؤيته مسجى على طاولة معدنية ليغسلوه ويجهزوه للدفن، ينزوي مع شريكته “كريستين” التي لا تلاقي قبولًا لدى أسرته وبيئته بسبب كونها مسيحية وسافرة الرأس، وتستبد به الرغبة في علاقة حميمة معها، يسحبها إلى غرفته، مثلما لو أن اللذة والألم، أو المتعة والموت وجهان لحالة واحدة، أو بوابة واحدة لاقتحام موطن الأسرار “يمكن للحب أن ينتظر، أمّا الغضب فلا”.
يرحل إلى العالم الآخر، عالم الأرواح، يجول في ذلك الفضاء السديمي والزمن السرمدي، يرى الكون، يستعيد قصة الخلق عابرًا التسلسل الخطي إلى أن يصل إلى لحظة الانفجار الكبير، لحظة نفخ الخالق أنفاسه فيه فانوجد الكون وانطلق الزمن، ويرى عظمة الخالق، وضآلة كوكبنا المنتهك الغارق في معاناته وعذابه، يتحوّل كوكب الأرض إلى كائن يحدّثه ويبث له همومه، فتهيم روحه فوقه ويرى إلى عذاب سكانه، كهؤلاء المدفونين في عمق الحفرة التي حفرها السوفيات في باطن الأرض، وشاع أن أصواتًا تنطلق منها، وأنها أصوات من يصلون في جهنم، جريرة خطاياهم، كما يخبره محدّثه بأنهم كمن ضاجع بالخطأ من وهبته الحياة في المرة الأولى، ثم عاد وفعلها عمدًا في المرة الثانية، فهام بقية حياته على وجهه أعمى يطلب الرحمة، في استحضار لأسطورة أوديب. وماذا عن غرور الإنسان الذي استخلفه الخالق عليه، “لعنتك معلقة في رقبتك، لكنك لم ترها بعد”، فهل هذا هو قدر الإنسان، لا محيد عنه؟
تنشغل الرواية بسؤال الله، وهل هو موجود؟ هذا السؤال الذي شغل الإنسان منذ أن أدرك وجوده في هذا الكون الملغز، يختلف الإيمان عن البرهان، فالإيمان عطيّة من الخالق، بينما البرهان شيء بشري، فهل القلب هو من يدرك الله وليس العقل؟
“الكون وحش كاسر، له قلب من حديد، يتنفس نارًا ولا يطفئ عطشه سوى الأمطار الحمضية، مثلما هو نفثة من السحر الحلال يطلقها مايسترو يختبئ خلف غيوم بنفسجية، الأمر يتوقف عليك، ما الذي تحب أن تراه؟ ما الذي قرّرت أن تؤمن به؟” الله الرحيم كلي القدرة، أم الله المنتقم الجبّار؟ “الخالق نور، ضياء، هالة مبهرة تغمر أفئدتنا وتنقش حرفًا من اسمها على جدار الروح”، “فمن أين إذن جاءت فكرة الهيكل العظمي الملتف في عباءة سوداء ويحصد الأرواح بمنجل معقوف؟”، هي مفاهيم يسعى السرد إلى إيصالها عن الخالق، بعيدًا عن السردية التي يروج لها رجال الدين فتحقن الأفئدة بالذعر والخوف من هذا الإله.
سؤال جنس الإله، وطرح بعض غلاة النسوية بأن الخالق أنثى في الأساس، ليرد عليه الطيف السماوي: “عليهن حل مشاكلهن مع ذكور مجتمعاتهن وعدم القفز عليها بتصعيد المعركة إلى مستوى يتجاوز حدود إدراكهن”، وردًّا على سؤالهن عن نصيب المرأة في الجنة أسوة بالحور العين للرجل يقول: “فليجتهدن أولًا من أجل دخول الجنة، ثم لكل حادث حديث”، أليس في هذا إجحاف بحق المرأة، وتأثر بالسردية الدينية عن دونية المرأة؟
مفهوم الخير والشر، الجمال والقبح، العدالة، الإرادة، الحرية، مفهوم الزمن، الكثير من المفاهيم الفلسفية تُطرح في الجدال بين روح الرسام في رحلته تلك، والطيف السماوي، مستعرضًا حياته كلها، منذ ولادته إلى لحظة فقدانه الوعي، ليرى الأمور والأشياء وعلاقاته بغيره من منظار آخر، فيلتمس الأعذار لأبيه، ولأخيه، ولسلوى حبيبته الأولى، ويكتشف نفسه في النهاية وهو الأهم.
سرد حافل بمفردات بصرية وبالصورة
في وصف مشهدي، يستدعي السينما بالكثير من أدواتها، الصورة، الحركة، النور والإضاءة، الموسيقى، الألوان، تقطيع المشاهد وإعادة تركيبها، كما لو أننا أمام سيناريو، يأخذنا السارد في رحلة من الفانتازيا المدهشة، يصف الحياة العليا، في السماوات، حيث للمعاني مفاهيم أخرى، حيث معايير تختلف عن المعايير الدنيوية، فلا الزمن موجود، ولا النسبية لها مبرّر، يمكن أن يمسك قطًّا بحجم الفيل في قبضة اليد، يرافقه طيف سماوي مثل مرشد سياحي، يعرف كيف يقدّم المعلومات، ومتى يرفع الحواجز في وجه الأسئلة التي لم يحن موعدها بعد.
تنتهي الرواية بما يمكن تسميته بالخلاص، أو الاستنارة، أو “الإيمان”، بعيدًا عن سرديات رجال الدين مـن خطبـاء الجمعـة ودعـاة السوشـيال ميديـا، “لماذا تركتم الكتاب بين أيديهم يعصرونه فتساقط من بين أصابعهم الدماء بدلًا من العسل؟”، و”جعلتم من الرحمة المهداة قاتلًا متسلسلًا يهجس بنحر الرقاب، فكيف سمحتم لهم؟”، وأن ما بنى عليه موقفه من سرّ الخلق، وقام على أساس معطيات ونظريات العلم، لا تناقض بينه وبين الإيمان.
يصحو من غيبوبته وقد ولد في داخله رجل جديد، “قلبي يغتسل، فأعرف أن رجلًا جديدًا ولد في داخلي، هذا أوان الصدق بعد عمر كامل من الأباطيل، يخرّ عقلي مصعوقًا، فأعتذر عن حماقات الجدل وغرور الأسئلة”. “كنت أتهم من ظننتُ أن الشمس مجتلاه، والهلاك مفرق جبينه، والجبال الراسيات عرشه المكين، بالمسؤولية عن انطوائي وفشلي.” بينما الحياة “رمح ووردة”، فماذا فعلت أنا؟ يسأل نفسه ويجيب “انزويت وأنا أردّد لا أريد ذاك ولا تلك. ولادة، بالنسبة إلى السارد، قد أينعت إنسانًا معافى، وجد طريقه لتجاوز خيباته وفشله، قلبه مفعم بالحب، خلقتم من حب ويسري في عروقكم الحب”.
ينتهي السرد بدخوله البيت بعد الاستشفاء، ويرى طيف قطته مع أولادها، إنما تحوّل لونها إلى الأسود، لم تعد بالنسبة إليه مصدر المشاعر الدافئة التي كانت تمنحه إياها، ولم تعد كما يراها في كوابيسه نصفها من تراب، صارت ترمز إلى القطيعة بين الذي كانه، وبينه وقد ولد من جديد، بعد أن استدلّ على الله بقلبه.
نص مربك، لا يمكن تلخيصه بعدة سطور، لا يمكن الشرود عنه أو تجاوز فقرات منه، لا يخلو من الانشغال بالقضايا الراهنة، حتى لو كان الهدف الأكبر منه سؤال الإيمان، فهو ينتقد خطاب رجال الدين الذي يساهم في تضليل العقول والقلوب، ينتقد فساد السلطة السياسية، ينتقد الحداثة المزعومة التي قضت على ازدهار الحياة في مصر، يسلط الضوء على الثورات التي تطالب بالحرية، يسأل الطيف عن إبليس، وكيف هناك من يكن له بعض التبجيل ويعتبره أول معارض سياسي في التاريخ، فيرد عليه الطيف: “تقصد جاذبية فكرة التمرد”. أمّا الأسلوب فيطغى عليه الوصف المشهدي بلغة غنية وعامرة بالمفردات اللونية والحركية، يقاطع بين السرد الأدبي والفن، حتى إن بيت شعر ألهمه بفكرة مشروع يحمل لوحات مستوحاة من عيون الشعر العربي القديم، وهذا أحد شواغل الدرس الحديث فيما يختص العلاقة بين الشعر والفن، بين بصرية القصيدة وشعرية اللوحة، فرفض أستاذه المشروع، ثم سرق الفكرة ليقيم معرضًا باسمه حولها.
كما أن النص زاخر بالعديد من التناصّات، أو الاشتباكات ببعض القصص والأساطير، كقصة النبي يونس، وأسطورة أوديب، عدا المعلومات التي قام بتسريدها بأسلوب رشيق، ولم تثقل عليه، بل أثرته.
ضفة ثالثة