مذهل ومحير الروائي الشاب محمد مبوغار سار، السنغالي الذي حائز على جائزة «غونكور» هذه السنة. صحيح أن لجنة الجائزة نادراً ما تكون خياراتها نصف موفقة، إلا أنها هذه المرة، قدمت لغير المتابعين الحثيثين للأدب الفرانكفوني، اكتشافاً أدبياً متعة للقراءة.
تركيبة الرواية الفائزة «الذاكرة الأكثر سرية للبشر» أشبه بلعبة الدمى الروسية التي كلما وصلت إلى واحدة منها، وفتحتها وجدت بداخلها أخرى أصغر. هكذا حتى الصفحة الأخيرة. ليس مبالغة القول، إن هذه الرواية التي توجت من الدورة الأولى، وكانت على لائحة العديد من الجوائز، هي من الصنف القليل الذي يدفعك إلى البحث عن أسماء وأحداث واردة فيها، كي تتمكن من فهم مرامي الرواية نفسها. مع التذكير بأن الكاتب هو نفسه باحث وأكاديمي، وروايته هذه، ما كانت لتنال الإعجاب الكبير لولا مهارته الأدبية، ولكن أيضاً هناك عشقه للتقصي، ومتابعة الخيوط التاريخية، واستعادة أحداث يفترض أنه طواها الزمن، ليعيدها حية، نابضة في روايته الراهنة، بل الراهنة جداً.
الأحداث متداخلة، الأسماء كثيرة، القصص متشعبة، والحيز الجغرافي الذي تدور فيه الحكاية شاسع. هي بشكل أساسي قصة كاتب سنغالي شاب يدعى ديجان، يقتفي في فرنسا أثر كاتب سنغالي آخر اسمه تي. سي. إليمان، حصد شهرة واسعة في نهاية الثلاثينات حين نال عام 1938 جائزة أدبية فرنسية شهيرة، عن روايته الأولى «متاهة اللاإنسانية». لكن سرعان ما طاردت الفائز المقالات والانتقادات، وطالته الفضائح الأدبية متهمة إياه بالتزوير والسرقة. هذا الروائي الذي لقب بـ«رامبو الأفريقي»، وتوج كتابه في عز الفترة الكولونيالية الفرنسية، وما رافقها من ظلم وانتهاكات في حق المستعمرات في القارة السوداء، ستنقلب النعمة في حياته إلى نقمة، بعد الحملة التي تعرض لها، وسينسحب من الحياة الأدبية إلى الأبد، دون أن يصدر أي كتاب آخر، لا بل سيطويه الزمن، وينساه العالم.
الرواية هي رحلة بحث عن هذا الأديب الذي أسكت دون أن يتمكن من الدفاع عن نفسه، وتقمع موهبته الأدبية، وهو لا يزال في سن صغيرة. تقودنا حملة البحث التي يقوم بها ديجان من باريس إلى أمستردام، ودكار، وبيونس آيرس في الأرجنتين. بحث ومطاردة لأي أثر، نجتاز معها مراحل تاريخية مفصلية، عرفتها أوروبا والقارة الأفريقية في تلك الفترة، الحرب العالمية الثانية، النازية، العنف، الظلم، وقسوة الأحكام. في غمار البحث نعبر حياة كتاب أفارقة كثر، منهم من نعرفهم، وغيرهم من بنات أفكار الكاتب. نعرج على أجواء الأدباء الأفارقة الشباب الباحثين، عن تحقيق مكانة أدبية في أجواء لا تتناسب بالضرورة مع ما يجول في خواطرهم. لا محاكمة للتاريخ ولا إدانات فجة في الرواية، هي أحداث يسردها محمد مبوغار سار، كما يراها ويستشعرها بمهارة، لا تخلو من بلاغة قد تصعب قراءة النص. فأديبنا كما بطله، عاشق للشعر، ويضع بين أيدينا رواية، قد لا تكون في متناول القارئ المعتاد على الروايات ذات العبارات البسيطة والقصة التي تنساب بسهولة. مبوغار سار له لغة خاصة، وصور واستعارات، وطرافة وظرف، يفسحان حتى في موضوعه العميق والجاد، مكاناً للتندر، وفي مواضع غير متوقعة.
في الصفحة 35 يعثر ديجان على كتاب تي. سي. إليمان «متاهة اللاإنسانية» عبر كاتبة أفريقية يلتقيها في باريس، ويبدأ كالمخبر التواصل مع كل من يمكن أن يضيف معلومة جديدة. ومن أفضل من النساء اللواتي مررن في حياة هذا الكاتب المفقود الأثر، وأفراد عائلته الأقربين، يملكون معلومة عنه.
أكثر ما يميز مبوغار سار هو إطلاق العنان لفانتازيا أفكاره، والتحليق بفرنسية صاغها وفقاً لذائقته، يجمع الشهادات، يلجأ إلى الأدباء، يعود إلى الكتب، ينهل من أحداث مضت، يستوحي شخصيات نسيت، يشبّك الخيوط. صاحب «غونكور» هذه السنة، يكتب، وقد ركب أمواج المغامرة، كأنما ليحرر نفسه، وكل الأدباء الفرنكوفونيين السود الذين سبقوه إلى الأدب، ولم ينالوا ما يستحقونه، ويشرع الأبواب أمام من سيأتون بعده. يقول في الرواية عن الظلم الذي لحق ببطله: «ما يحزنه هو أنك لم تنظر إليه ككاتب، بل كظاهرة إعلامية، كزنجي استثنائي، وكساحة لمعركة آيديولوجية».
يترك مبوغار سار، لنفسه العنان، من خلال موضوعه ليذهب حيث يشاء يسافر من قارة إلى أخرى، يتنقل بين الماضي والزمن الحاضر، يرصد الظواهر، يوغل في الحديث عن العلاقة بالنساء، يسخر من أي شيء، حتى من الأدب والأدباء أنفسهم. فهو مؤمن بأن عليك «أن لا تنتظر من الكتاب الكبير شيئاً، لأنه يحكي عن كل شيء ولا يحكي عن أي شيء. لكنك تجد فيه كل الأشياء». ذاك هو الأدب بمعناه الرفيع.
رواية «الذاكرة الأكثر سرية للبشر» مهداة إلى يومبو أولوغويم الأديب الحقيقي الذي استوحى من مأساته هذه الرواية. هو كاتب موهوب من أصل مالي، كان أول أفريقي يحصل على جائزة «رونودو» عام 1968 عن روايته الأولى «واجب العنف»، لكن تماماً، كما حصل مع بطل مبوغار سار، تعرض بعد الفوز لحملة تتهمه بالسرقة الأدبية وقلة الأمانة، دفعت به في النهاية إلى الانطواء، حيث انتهت حياة هذا الكاتب بصمت، وطواه النسيان. وإن كان الفرنسيون يعيدون اكتشاف حكاية هذا الأديب الأفريقي الذي توجوه، ثم خلعوا عنه كل مصداقية قبل ما يقارب نصف قرن، فإن بلاده لم تنسه أبداً. ففي كل سنة يحتفل الماليون، مع الدخول الأدبي بكاتبهم الذي ظلمته باريس، ويمنحون أديباً يكتب بالفرنسية جائزة تحمل اسم يومبو أولوغويم، إنصافاً لذكراه.
لكن قبل يومبو أولوغويم، كان أفريقي آخر قد نال جائزة أدبية فرنسية مرموقة، فاحت من بعدها روائح عنصرية. إنه رينيه ماران الذي نال «غونكور» عام 1921، أي قبل 100 سنة بالتمام من محمد مبوغار سار، وبينهما لم تعط هذه الجائزة لأي أفريقي ساحلي أبداً. في مطلع عشرينات القرن الماضي، جاء فوز رينيه ماران بمثابة قنبلة مدوية، في الوسط الأدبي الفرنسي، ولا تزال الصحافة الفرنسية تتذكر ما تعتبره «مقالات عنصرية معيبة رافقت هذا الفوز» في زمن استعماري متعجرف بين الحربين العالميتين.
وبقليل من التمعن، في مسار بطل رواية «الذاكرة الأكثر سرية للبشر» يمكننا رؤية ملامح من مسار رينيه ماران تختلط بحكاية يومبو أولوغويم، لتبلور شخصية إليمان. فمن غير الممكن لباحث دقيق، وقارئ نهم كما مبوغار سار ومهتم بالجوائز، أن لا يكون قد راجع سجل «غونكور»، وتاريخها في إقصاء الأفارقة الفرنكوفونيين، وما رافق فوز الأفريقي الوحيد قبله من ظلم وحملات واتهامات.
على أي حال، أكثر من مفاجأة لجائزة «غونكور» هذه السنة. إضافة إلى أنها توجت أفريقياً ساحلياً لأول مرة منذ مائة عام، فإن الفائز شاب لا يتعدى عمره 31 سنة، استطاع خلال فترة قصيرة، أن يصدر أربعة كتب لقيت صدى طيباً. وبذلك يكون مبوغار سار، هو ثاني أصغر الحاصلين على «غونكور»، بعد الفرنسي بارتيك غرينفيل الذي نالها عام 1976 وهو في التاسعة والعشرين. مفاجأة أخرى أنها أعطيت لسنغالي مسلم اسمه محمد، في اللحظة التي تدور فيها منازلات حادة حول العودة إلى فرنسة الأسماء، والالتزام بلائحة محددة تحددها الدولة، فإذا بمن ينال أكبر جائزة أدبية، يحمل أكثر الأسماء المسلمة رمزية. وإذا أضفنا فوز دار نشر صغيرة مثل «فيليب راي» في مواجهة نتاجات عمالقة دور النشر الباريسية، يكون الخيار، هذه المرة مختلفاً على أكثر من صعيد.
وطريف أن تتمكن رواية موضوعها الأساس هو لعنة الجوائز الفرنسية على الأفارقة، أن تفوز بما تخشى منه، وما ينبه من الوقوع فيه صاحبها. إذ نقرأ في رواية مبوغار سار «احذروا أيها الشباب من الجوائز». هكذا يمارس كاتبنا، لعبة الرواية داخل الرواية، ثم جاءت لجنة جائزة «غونكور» لتذهب معه في لعبته الأدبية إلى منتهاها. وها هو يفوز كما حدث لبطله في روايته، ويستضاف على الشاشات، ويسأل إن كان يخشى أن يكون كتابه الأخير كما إليمان، فلا يستغرب ولا يمانع، ولا يوافق، لكنه يترك الباب مفتوحاً. فهو عاشق للكتابة والأدب، لكنه يعتقد أيضاً «أن الأديب حتى ولو تعددت مؤلفاته، له كتاب واحد، هو الأهم، الذي يمكن أن يستغنى به عما تبقى من مؤلفاته».
*الشرق الأوسط