واحدة من الروايات، على اللائحة الطويلة لجائزة البوكر لهذا العام، تلك التي كتبتها ديمة الشكر، وحملت عنوان «أين اسمي؟»، صادرة عن «دار الآداب». هي العمل الروائي الأول للمترجمة والناقدة، التي قررت الانتقال إلى عالم الرواية، خلال فترة الحجر، منطلقة من بحثها المزمن والقديم عن حكاية مدرسة طفولتها في باب توما المهددة باستثمار تجاري تحوم حوله الشبهات، وينزع عنها صبغتها التاريخية. ديمة الشكر تابعت طويلاً حكاية هذا المبنى الذي كان في الأصل بيتاً شامياً بناه الوجيه أنطوان شامية، من التعويضات التي دفعها العثمانيون لضحايا مجزرة 1860 في دمشق، أو ما بات يسمى بعد ذلك «طوشة النصارى»، ليؤكد أن المسيحيين باقون، ولن يغادروا بيوتهم، رغم ما حلّ بهم من تقتيل.
مدرسة ومجزرة
قصة المدرسة فتحت الباب، إذن، للكاتبة على حكاية المجزرة حين اكتشفت أنها ارتكبت في الجوار. 12 سنة وهي تتابع، وتبحث عما حدث في تلك الفترة الأليمة من حياة دمشق، وكيف عاش الناس المقتلة وبعدها. كيف يفكر الضحايا، وما هي التحولات الاجتماعية التي مروا بها إثر تهجيرهم من بيوتهم، ومغادرتهم أماكن سكنهم، وكيف يتصرف المرء بعد أن يفقد غالياً بوحشية تصبغ ذاكرته.
تقول ديمة الشكر لـ«الشرق الأوسط»: «سكنني شغف كبير للبحث عن مجزرة 1860 في دمشق. وهي حتماً على صلة بالمذبحة التي حصلت في الفترة نفسها في جبل لبنان، فالضحايا في الحالتين مسيحيون.
صحيح أنني كتبت الرواية في فترة 4 أشهر، لكنني كنت قد جمعت قبلها كل المعلومات، وقرأت كثيراً حول تلك الفترة. لفتني أن المذبحة غالباً ما يطلق عليها اسم حوادث، لتخفيف الوقع على الأذن. وكان ثمة حرص من قبل السلطات العثمانية على التكتم، بل منع الكلام عنها، فيما تصمت الضحية عادة، لأنها تشعر بالعار».
البطلة الضحية
تولد قمّور بطلة رواية «أين اسمي» من رحم المذبحة في دمشق. كانت في السابعة بعد ظهر 9 يوليو (تموز) 1860 تلعب قرب بركة الدار حين هوى نصل حادّ على رأس أمها شاجّاً إياه، وقضت مع من قضوا. آلت حال الصغيرة بعد حين، لأن تصبح خادمة، في منزل إيزابيل وزوجها القنصل الإنجليزي ريتشارد فرنسيس بورتون.
وهو مكتشف وأثري وباحث ومترجم معروف، له يرجع الفضل في نقل «ألف ليلة وليلة» و«الروض العاطر» والـ«كاماسوترا» إلى الإنجليزية. ليس غريباً أن نرى قمّور خادمة، وأن يتبدّل حال الناجين من المجزرة، «فأي كارثة تحلّ على الطبقة المتوسطة، تهوي بها إلى أسفل، وهذا ما حدث لكثير من شخصيات الرواية في باب توما، بعد المجزرة التي فرقتهم، وجعلت أقدارهم تتحول، رغماً عنهم. لكن ما يعود وينقذ هذه الطبقة ويرفعها هو التعليم»، تقول لنا الكاتبة.
بين الحقيقة التاريخية، وأجواء دمشق بأسواقها وديباجها وروائحها وحارتها، ومسحة الخيال التي تضفيها الشكر على عملها، يستعين القنصل بخادمته قمّور لتجمع له المعلومات عن المجزرة وتدونها، وهو ينهرها عن التدخل في رواية التفاصيل، يلزمها بحيادية النقل، وبرود المشاعر: «أنت مدوّنة ولست كاتبة»، يقول لها حين تحيد عن النهج الذي رسمه لها. لكن ما جمعته قمّور على أهميته لا يتحول إلى مادة صالحة للنشر، تحاول ولا تستطيع. كانت تحتاج مسافة من الوقت بين المأساة والتدوين الفعلي لها. تؤكد الشكر أن «قصة الخادمة قمّور ليست من نسج الخيال بالكامل. فمن الممارسات التي كانت شائعة استعانة الإنجليز بالأهالي لجمع الشهادات والمعلومات. ومما فعله السير ريتشارد بورتون نفسه أنه طلب ترجماناً ليجمع له الأمثال السورية، ويترجمها إلى الإنجليزية ونشرها بعد ذلك». وتضيف: «نعلم أن ثمة فتاة سورية أخذها معه ريتشارد بورتون وزوجته إلى بريطانيا، كما هي حال قمّور».
قمّور كاتبة، لكننا لا نعلم عنها الكثير. وبالتالي، فإن شخصية قمّور هي مزيج روائي تاريخي. «مقاطع كثيرة من الرواية، مستلهمة من حقائق وجدت بالفعل، لكن كان لا بد من نسج خط قصصي يربطها». بمعنى آخر، فإن المعلومات الغزيرة للأديبة عن المرحلة، وعن القنصل الإنجليزي ومساره، كل هذا ساعدها كي تحبك قصتها من الخلفيات التي تمتلكها. فإذا بنا أمام حكاية، تقرب قدر الممكن روح تلك المرحلة، في نهاية القرن التاسع عشر التي كانت مفصلية ومضطربة.
بورتون وزوجته يعودان إلى بلادهما، وقمور تريد أن تنسى نزف الماضي، لتعيش حياة جديدة برفقة زوجها حنا. ويوم يصلها مبلغ من المال، بعد وفاة بورتون وزوجته التي أوصت لها بـ50 جنيه إسترليني، تتذكر قمّور وصية برتون لها بالكتابة، وتعود تنبش فيما نسخت وخبّأت، يوم كان يطلب منها التسجيل. «هذه المرة تكتب قمّور، لأنها تريد أن تكتب، هي تمتلك إرادتها وحريتها، ترجع إلى القديم، وتتحول هي نفسها إلى شاهد عيان على ما رأت وسمعت. لكن زوجها الذي كان قبل ذلك ترجمان القنصلية البريطانية، سيصدر الكتاب بدون اسمها، وعلى غلافه (قرين حنّا المسك)». من هنا يحق لها أن تسأل، وهي صاحبة الجهد والشاهد الحقيقي: «أين اسمي؟» تشرح الكاتبة: «في النهاية، صار التأجيل بالنسبة لقمّور أمراً لا يحتمل بعد انتظار 22 سنة. تدون هي الحكاية، لكن النسخة المكتوبة تحمل اسم زوجها. ولأن الكلام كان لا يزال محظوراً، يقول أحد الباحثين؛ الآن عرفنا سبب وجود عدة نسخ عن المخطوطة، ذلك لأن تناقلها كان سرياً وتأخر طبعها حتى عام 1901».
تتحدث الشكر على جزئية غاية في الأهمية في الرواية، وهي أن «قمّور لفتت القنصل بذكائها، في وقت كان فيه التعليم قد بدأ ينتشر في المنطقة، فوجد أنه لا بد أن يعلمها الإنجليزية، كي تتواصل مع زوجته التي لم تتحدث العربية. وما أردت أن أبرزه هو أن قمّور فشلت في الكتابة في البداية، لكن مع التدرج في التعلم، وبعد اكتمال الأدوات لديها، قررت أن تكتب من تلقاء نفسها». فالقصة تدور أحداثها على أعتاب عصر النهضة، والروائية لم تفوت الفرصة، لتجعل من بطلتها الخارجة من مجزرة، امرأة لا تكف عن التطور، سواء في مظهرها أو في عاداتها، بعد أن تذهب مع مخدوميها إلى لندن وتريستا، أو بشكل أخص في فكرها وقدرتها على التعبير عن نفسها.
روايتان في كتاب
الكتاب عبارة عن روايتين، تحكيان قصة امرأتين دمشقيتين، من زمنين مختلفين. ففي القسم الثاني هي حكاية زينة الهاربة من جحيم هي الأخرى، لكنها الحرب السورية هذه المرة. تدرس المعمار في لندن بفضل منحة حصلت عليها، وتقرر أن تتخصص في البلاط القيشاني. يصادف أن يعطيها أستاذها رواية قديمة، فيها معلومات تفيدها في اختصاصها. الصلة بين المرأتين وطيدة، رغم فارق الزمن الذي يقارب 100 سنة. الاثنتان ذهبتا إلى لندن، وعادتا مختلفتين. وتتشارك ديمة الشكر مع بطلتيها عيشها، هي أيضاً لفترة في لندن: «كتبت عما أحب، عما أعرف. تدور أحداث الروايتين في أماكن تحركت فيها، وأعلم تفاصيلها، وصفت كثيراً المعمار، فهذا أمر يهمني». شغفت الروائية بشخصية بورتن، قرأت عنها، تتبعت سيرته، ذهبت وزارت مقبرته. «لم أتمكن من أن أحمّل الرواية كل ما عرفته عنه. الروائي كالخياط، حين يخيط حكايته، لا بد أن ثمة معلومات تفيض عن حاجة القص، فيهملها. لكن معلوم أن زوجة بورتون بعد وفاته أحرقت كتبه. كانت سيدة متعصبة مسيحياً، وهو منفتح وغير عابئ بالدين، ويحب المسلمين. أرادت أن تخفي هذا الوجه عنده، الذي لم يكن يريحها، ويموت مؤمناً كاثوليكياً. وقد عني كثيراً في حياته بدراسة الممارسات الجنسية عن الشعوب، من هنا جاءت ترجمته للكاماسوترا. وتعمق في الأنثروبولوجيا ودرس الأفارقة والهنود والعرب. لكن كل هذا لم يكن له من مبرر لذكره في الرواية».
بالعودة إلى زينة بطلة القسم الثاني من «أين اسمي؟» فهي الأخرى تتعلم من أستاذها الإنجليزي كما تعلمت قمّور على يدي القنصل ريتشارد بورتون. وفي نهاية الرواية، نراها تستمع إلى ملاحظاته التي تبدو ألطف وأكثر لياقة من ملاحظات ريتشارد الفظة المستعلية لقمّور. لكن القارئ يترك الرواية على عطش، ويبقى يعنّ على باله سؤال، لا يجد له جواباً؛ لماذا تتطور البطلتان قمّور وزينة وتترقيان في مراتب المعرفة، على اختلاف الزمنين، على يدي رجلين إنجليزيين؟ بالتأكيد ليس في الأمر من مصادفة.
*الشرق الأوسط