سوزان علي: فقاعات عبر أثير إذاعة دمشق

0

يسبح كل جنين في رحم أمه، حاضناً بين ذراعيه جهاز راديو صغيراً، تديره أمه من الخارج، تشغله أو تطفئه، تخفي مستوى الصوت أو ترفعه، تحرك الإبرة يميناً أو يساراً كيفما شاءت، وما على الجنين سوى الإصغاء والتعلّم، لذلك لا يخطئ الصغير في وجه أمه عندما يخرج من بطنها.

هكذا كانت تجيبني جدتي دائماً، عندما أسألها: هل كان بحوزتي راديو عندما كنت في بطن أمي؟ 

وحكاية جدتي تبدو صحيحة إلى حدٍ بعيد، شرط أن ندع جانباً شاعريّة الخيالات الطفولية وأسئلتها البريئة التي تؤدي غالباً إلى أجوبة بريئة تستوعب نهم  الطفل ودهشته في هذا الكون.

فلكل شعب من شعوبنا المتخمة بالأحلام، إذاعة تديرها الدولة من مقرها العاجي، تعبث في إبرتها وتوجه عقول الأفراد إلى ما تشاؤه من أهداف وقيم وسبل حياة تود صنعها في لا وعيهم، انطلاقاً من فكرة أن الإعلام رسالة، الفكرة التي لا تناقض جوهر الدين ورسله، أن يكون الإعلام بعثة تبشيرية لكرسي الملك ونظامه وعسكره.

ولتلك الدولة الحق كل الحق في تحديد مواعيد البث والإغلاق، أوقات استيقاظ المواطن ونومه، وأسباب حزنه وسعادته، متى يضحك ومتى يصفق، وهكذا عاش الشعب السوري عبر أثير إذاعة دمشق مذ جاء العسكر ووضع بندقيةً بين ذراعيّ الجنين، وغدت إذاعة دمشق التي تمّ افتتاحها في 6 شباط/ فبراير 1947 في بيت مأجور صغير في شارع بغداد وسط دمشق، إلى كيان مدرَّع، وتحوّلت الجملة الشهيرة للأمير اللبناني يحيى الشهابي: “هنا دمشق” عند أول بث إذاعي، تحولت  من افتتاحية رقيقة عذبة إلى إلى أمر عسكري أشبه بـ”وراء در”.

على الموجة المتوسطة 747 كيلو هيرتز، كنّا في الساحل السوري ننفذ تعاليم إذاعة دمشق وكانت الحياة خبزاً وطريقاً ووعوداً، ولولا تلك الموسيقى والأغنيات التي كانت تقاطع الخطابات لتحوّلت ذاكرتنا إلى محض مفرقعات نارية تنير السماء للحظة خاطفة ثم تذوي، فالموسيقى سوَّرت ذاك الماضي ومنعت الخطابات من التقدم أكثر، ونحن الشبيبة لبسنا الزي العسكري، وذهبنا إلى المدارس على شكل رتل مقاتل، وفي ساحة المدرسة أنشدنا العلم الوطني واستمعنا إلى الإذاعة في الساحات تحت المطر ولم نتقن شيئاً كإتقاننا تنفيذ الأوامر، وفتح الأيدي على امتدادها من أجل الضرب بعصا الرمان. 

الافتتاحية الصباحية كانت مع برنامج “الفلاحين في حقولهم”، وحكايا عن حشرات شجرة التفاح وسبل الوقاية منها والأدوية التي توزعها مديريات الإصلاح الزراعي للقضاء على هذه الآفة، كل صباح كنا نرتدي الثياب الموحدة، ونخرج في أرض جرداء نمشي في الوحل ونحسد حشرة المن… 

لم تكن هناك حروب، لكننا أمضينا سنوات طويلة مع الإذاعة وكأننا في خندق مستعدين متأهبين لأي غارة، لأيّ مجاعة أو ثورة. كان أبي يرتدي بزّته العسكرية المهترئة وبوطه العسكري ذي الجلد المقشر المنفوخ ويغادرنا في الخامسة فجراً إلى ثكنته في أحد الأرياف، والإذاعة تبث النشيد الوطني بدءاً بيوم جديد، فالذين نحبهم يجرحون قلبنا أول الصباح، من دون أن ينتبهوا أننا نراهم ونلمح خطواتهم حيث البرد ينهش عظامهم من أجل كسرة خبز يابسة.

وجاءت الثورة في سوريا، واندلعت الحرب، واتضحت معالم الإذاعة- الثكنة، أو الحكاية التي كانت تقنعني بها جدتي.

في السنة الماضية وفي عيد الفطر تحديداً بينما كنت أتجول في شوارع دمشق، شاهدت مراسلة إذاعيّة في بث مباشر، تقف منهمكة مع مساعدها وسط السوق، تضع سماعات ضخمة على أذنيها وتمسك “مايكروفون”، وتقول بسعادة وبفم مفتوح: 

“ما ممكن أوصفلكون أجواء العيد بالشام، صواني الحلويات عا مدّ الطريق، المقاهي والمطاعم معباية بشر، وزحمة مرور كبيرة”.

علماً بأنّ المراسلة الإذاعية كانت تبحث عن أي شخص في الشارع كي تسأله عن بهجة العيد، إلا أن السوق كان خالياً تماماً، إلا من القطط الشاردة التي كانت تتمايل بهيكلها العظمي قرب حاويات القمامة.

(درج)