سوزان علي: أنا رامي أحمد رئيس الجمهورية العربية السورية

0

منذ سنوات مضت في ذاك الريف الأخضر النائي، أينما حدقت في البعيد، سترى بناء مدمراً أو كتلة أنقاض وسط سفح من العشب يتراكض فيه الصبية. مشهد أبدي للقرية التي لم تتعرف إلى نفسها بعد، ولم يتذوق أهلها طعم أن يكون لهم متنزه أو حديقة، أن يحصل أولادها على ملعب لكرة القدم.

كان يكفي أن تأتي بحجارة كبيرة أو سطل سمنة صدئ ، تضعهما قبالة بعضهما في خط مستقيم كي يصبح لديك مرمى، يمضي الأولاد ساعات من اللعب الشيق وكأنهم في ملعب نادي ليفربول الإنكليزي العريق، لا تؤلمهم الندبات الدامية في ركبهم أو جباههم، ولا يزعجهم منظر ثيابهم المتسخ وهم يعودون أدراجهم إلى منازلهم عند المغيب.

ومع أولئك الصبية في أمكنتهم العريضة الحالمة، بدأتْ رحلة التعرف إليهم والتقرب من اهتماماتهم، وما إن لمست حبهم للمسرح وللكتابة، حبهم لأي شيء يشعرهم بأنهم على قيد الحياة ولهم وجود حي مثلهم مثل العشب الذي يلعبون فوقه كرة القدم، حينئذ اتفقنا على لقاءات مستمرة من دون هدف محدد، ودون أن أضع برنامجاً يثقل همي ويودي بتجربتي إلى مهمة البحث العلمي كما برامج المنظمات مع الأطفال التي تبدأ بركام وتنتهي بصورة تذكارية، ودون مواعيد تدفع بالأولاد إلى الملل كما لو كنت معلمة في مدرسة حكومية، هم الذين عانوا ومازالوا يعانون من ويلات المدارس في سوريا ومشاهد العصا المتدلية من أيدي المدرسين.

 بدأنا بالخيال، أن تؤدي بالتعاليم الملقنة المعلبة وراء ظهرك، وتبدأ في تشكيل العالم حسب ما تهوى وما ترى.

 من أين يأتي الغيم؟ وكيف يرحل؟ وبماذا يفكر وهو يقبع فوق قريتنا؟!

 كم من مرة قاطع خيالنا مرور طائرة مسافرة بين الغيوم، ليترك الصبية الغيم ويدخلوا الطائرة، ويطلبوا العصير المثلج من المضيفة ثم ينظرون من النافذة إلى بيوتهم الفقيرة ويلوحون لها.

 كان مختبرنا الصغير يقع على أطراف القرية، في حقل صغير من أشجار الزيتون، قادني إليه الصبية، وطلبت منهم أن نسمي مكاننا الجديد، والكل أجمع على “تشرين” تيمنًا بنادي تشرين لكرة القدم، النادي اللاذقاني المعروف. 

لكن لم تمضِ فرحتنا طويلاً فصاحب الأرض لم يعجبه تجمعنا، فهناك ريبة قاتلة من كل تجمع، ليس ممهوراً بختم الحزب وموافقة الدولة، حتى لو كان الاجتماع مجرد لعبة صغيرة بين صبية هم أبناء المنطقة وليسوا بغريبين عنها. وكان أحد الاتهامات الموجهة لنا، بأننا نضج في المكان، الضجيج الذي شكرني البعض من أهالي القرية على إخماده، بعد أن انتهى  الركض والصراخ وإفتعال المشاكل في الشارع. وكانت التهمة الثانية أكثر خيالا وشاعرية، وهي التهامنا أوراق شجر الزيتون، أي أننا خراف سنلتهم الأخضر واليابس في هذا الحقل. 

إنني لا أمزح كانت هذه هي التهمة.

انتقلنا إلى سطح بيتنا، وهناك صار مطلب الهدوء أكثر إلحاحاً، ولا بد لي من تغيير شروط  اللعبة، لذا اكتفيتُ بقراءة بعض القصص العالمية القصيرة، وبدأت بـ”المعطف” لغوغول، في كل جلسة كنت أطلب من الجميع أن يكمل القصة كما يحب ويتخيل، وكانت هناك نهايات مذهلة.

 وفي أوقات الاستراحة، كان الصبية يتحدثون عن مشكلاتهم، المدرسة أولاً وأخيراً كانت عقدتهم في الحياة، أخبروني عن تطور وسائل الضرب والتنمر والقمع المستخدمة هناك، فالعصا أصبحت من الطرق القديمة الكلاسيكية، يستعمل المعلمون الآن أيديهم وأرجلهم وشتائمهم، موسى هو أحد الصبية الذي مدده معلمه أرضا وجلس فوقه أكثر من خمس دقائق كعقوبة له.

 لهول الضحك وقتها لم أصدق، بل قلت أنها نكتة، لكن بقية رفاق موسى في الصف، أقسموا بأن القصة حقيقية وأكدوا أن ما حدث لموسى ليس فريدا أو نادرا كما أظن.

وبعد أسبوع طلبت من الجميع كتابة قصة يتحدثون فيها عن أنفسهم و أحلامهم، قصة تكون بمثابة السيرة الذاتية. وكان يصعب عليه فهم الأمر، حتى بعدما شرحته مراراً، وقد سألني أحدهم: “الشخصيات أي أمي وأبي وإخوتي؟”.

عملت على  تقديم الجوائز البسيطة التي كان بوسعي شراؤها من أقلام أو دفاتر أو كراسات تعلم اللغة الانجليزية، لكن هذه المرة قررت أن أثير خيالات الصبية أكثر بعدما علمت بأن كرة القدم خاصتهم قد دهستها سيارة على الطريق العام ثم انفجرت، فأعلنت بأن الجائزة ستكون كرة قدم، وستذهب إلى الكاتب الذي سيقدم لنا أجمل قصة عن نفسه.

واجتمعنا هذه المرة في الصالون، بعدما غضب الجيران من أصواتنا فوق السطح، وجاء  غياب أهلي عن المنزل مناسباً في ذاك اليوم، جلسوا على الأرض، ثلاثين صبياً من أعمار مختلفة أكبرهم كان 15 عاماً، جميع تلك القصص جاءت مكررة مملوءة بالأخطاء جملة وتفصيلاً.

 لم يعرف أحد من أولئك الصبية أن يكتب عن نفسه عن شخصيته لم يعرفوا ماذا يحبون وماذا يكرهون. وضعتُ القصص جانباً، وبدأنا نتكلم اللهجة الدارجة دوناً عن الفصحى ونتابع شفهياً محاولاتنا في نطق أحلامنا دون خجل أو خوف من التنمر والسخرية والضرب.

سألتهم عما إذا كانوا حلموا في ما مضى بأن يصبحوا رؤساء دولة. شعرتُ بأنني رميت حجراً في بحيرة ساكنة، الملامح اختفت، الخدود احمرت، وأطبقت الشفاه في سكون تام، وضاعت النظرات.

 يا إلهي، مسكت الخيط الذي أريد قطعه، بقيت مدة ساعتين وأنا أناقش الصبية في بساطة هذا الحلم، شممت رائحة المخابرات والأمن السوري، رائحة أربعين سنة من الهراوات، ورأيت المعتقلات في عين كل صبي، لقد كنت أرجوهم وأحفزهم وأغريهم بالمكافأة، كانوا يلتفتون إلى بعضهم بعضاً، ثم إلى باب دارنا، خشية أن يسمعنا أحد نتفوه بمثل هذا الكلام الخطير.

 كان رامي أحمد الأكثر خوفاً ورعباً من أن يسمعنا أحد، يحدق كجاسوس أُلقي القبض عليه  للتو، سألته أن يقترب مني ويقف أمام الجميع ويقول لنا بصوت عالٍ اسمه ثم وظيفته كرئيس للجمهورية ويشرح لنا برنامجه الانتخابي، لم يقبل ولم يستطع وتلعثمت الحروف في صوته واختنقت، وتوسل شطب السؤال أو رده إلى غيره من الصبية الذين كانوا لايختلفون عنه في مخاوفهم، أحدهم نهض وغادرنا، بحجة أن أمه تنتظره كي تصحبه إلى طبيب الأسنان.

 وبعد نقاشات طويلة حول المسرح والتاريخ والعالم وبساطة أن تكون رئيس دولة بعلمك ودراستك ومواقفك ومعنى أن تضع برنامجاً انتخابياً، بما أن هذه الجملة يشوبها الغموض والجهل في سوريا، شجعتُ رامي على حقه في الحلم، وبأن  كرة القدم ستكون من نصيبه، صمت رامي وحدق بنا جميعا ثم نظر إلى كرة القدم بحسرة وتجمعت كتلة من الدموع في حنجرته ثم غصّ وقال بصوت هامس خاشع:

 أنا رامي أحمد رئيس الجمهورية العربية السورية وبرنامجي الانتخابي المقبل إغلاق المدارس وتشييد ملاعب لكرة القدم مكانها.

(درج)