عزيزي بورخيس،
لأن أدبكَ دائماً تحتَ يافطةِ الخُلودِ، فلا يبدو غريباً أن أوجّه خطاباً إليك.
بورخيس، مرّت عشرُ سنواتٍ،
لو قُدِّرَ للمعاصرةِ أن تُخلّدَ أديباً، فأنت نتاجُ عصرِكَ وثقافتِكَ إلى حدٍّ كبيرٍ، كما تعرفُ كيف تتجاوزُ عصركَ وثقافتكَ، بطرائقَ أقلّ ما يُقالُ عنها إنها سحريّة. تفعلُها بانفتاحٍ وانتباهٍ.
أنتَ الأقلُّ أنانيةً والأعظمُ شفافيةً بين الكُتّابِ، وأنتَ أكثرُهم فنيةً. تكتبُ، بصفاءٍ طبيعيٍّ من الروحِ. ومع أنكَ عِشتَ فيما بيننا رِدحاً طويلاً من الزمنِ، إلا أنكَ ظللتَ تُتقن ممارسةَ فائقِ الحساسيةِ والعزلةِ، مما جعلكَ خبيراً في السفرِ الذهنيِّ إلى عُصورٍ أخرى.
لديكَ حِسٌّ مختلفٌ بالزمنِ عما لدى الآخرين. تبدو أفكار الماضي والحاضر والمستقبل مبتَذلَةٌ تحتَ نظرتكَ. وتُصرّحُ إن كلّ لحظةٍ تضمّ الماضي والمستقبل معاً، مستشهداً (كما أتذكّر) بالشاعرِ براوننج وقد سَطّر شيئاً شبيهاً “الحاضرُ لحظةُ انهيارِ المستقبلِ في الماضي”. هو، طبعاً، جزءٌ من تواضعكَ؛ ذوقكَ في العثورِ على أفكاركَ ضمنَ أفكارِ الآخرين.
إن تواضعكَ جزءٌ من تأكيدِ وجودكَ. فقد استكشفتَ مباهجَ جديدةً. التشاؤمُ عميقٌ كالصفاءِ، لأنك في غيرِ حاجةٍ لأن تنقِمَ. بل تُفضّل أن تبتدعَ؛ وكنتَ على رغمِ كلِّ شيءٍ مبتدعاً. كان ما لقيتهُ من الصفاءِ وسموِ النفسِ مثالياً. بيّنتَ أنه لا لزومَ أن يتعسَ المرءُ نفسَهُ، حتى لو كان حادَّ المِزاجِ وصادقاً أمامَ كلِّ ما يبدو فظيعاً. قلتَ: يجبُ على الكاتبِ (وأضفتَ برهافةٍ: على كلّ امرئٍ) أن يؤمنَ بأن في كلِّ ما يحدُث لهُ عزاءٌ. (كأنكَ تتحدّثُ عن عماكَ).
وقد وجدتَ عزاءً كبيراً، لغيركَ من الكُتّابِ. في عام 1982 ـ قبلَ أربعِ سنواتٍ من وفاتكَ ـ صرّحتَ في لقاءٍ معي أنه “لا يوجَد بين كُتّابِ اليومِ مَن هو أهمّ من بورخيس. سيقولُ معظمُ الناسِ إنه أعظمُ كاتبٍ… فمَن لم يتعلّم منهُ أو يقلّدهُ قليلٌ من كُتّاب اليوم”. ولا تزالُ المسألةُ صحيحةً. لا نزالُ نتعلّمُ منكَ. لا نزالُ نقلّدكَ. فقد منحتَ طرقاً للتقليدِ جديدةً، بينما كنتَ تنادي المرّةَ تلوَ المرّةِ بمديونيتِنا للماضي، وفوقَ كلِّ شيءٍ للأدبِ. قلتَ إننا مدينون للأدبِ تقريباً بكلّ ما نحنُ عليهِ وما سنبلُغهُ. لو انتهَت الكتبُ فقد ينتهي التاريخُ، وينتهي الإنسانُ.
وإني لعلى يقينٍ مِن يقينكَ هذا. فليست الكتب مجرّد كميّةٍ كيفيةٍ لأحلامنا وذكرياتنا فحسبُ، بل تمنحُنا نموذجاً للتسامي بالنفسِ. يظنّ بعضُنا أن القراءةَ نوعٌ من الهروبِ، هروبٍ من عالمِ اليوميِّ “الحقيقيِّ” إلى عالمِ المُتَخيَّلِ، عالمِ الكتبِ. لكن الكتبَ أكثرُ من ذلكَ. الكتبُ دروبٌ إلى ما هو أكثر إنسانيةً.
من دواعي أسفي أن أبلغكَ إن الكتبَ الآن صارَت من الآثارِ المنقرضةِ. فالكتبُ، أقصدُ شروطَ القراءةِ، تجعلُ الأدبَ مُحتَملاً بتأثيراتهِ الروحيةِ. وقيل لنا مؤخراً إننا قد نستدعي أيَّ “نصٍّ” نحتاجهُ من “شاشاتِ الكتبِ”، وقد نُغيّرُ شكلَه، ونُسائلهُ، بل “نتفاعلُ” معه.
حين تصيرُ الكتبُ “نصوصاً” قد “نتفاعلُ” معها وفقاً لمعيارِ النفعيةِ، تستحيلُ الكلمةُ المكتوبةُ شكلاً آخرَ أكثرَ بساطةً لحقيقةٍ متلفزةٍ تُديرُها الإعلاناتُ. هذا مستقبلُنا المجيدُ المبدعُ الموعودُ الأكثرُ “ديمقراطيةً”. لا يعني هذا، طبعاً، أقلَّ من استبطانِ الموتِ؛ كذلك الكتبُ. في مثلِ هذا الوقتِ، لن نحتاجَ إلى حريقٍ هائلٍ. فلن يُحرِقَ البرابرةُ الكتبَ. سيظلُّ بالمكتبةِ النمرُ.
عزيزي بورخيس، أرجوكَ ألاّ تفهمَ هذا على أنهُ نزعةُ شكوى. لكن شكواي عن مصيرِ الكتبِ ـ والقراءةِ نفسِها ـ فمَن أفضلُ منكَ أخاطبه؟
بورخيس، مرّت عشرُ سنواتٍ!
كل ما أقصدُ قولَهُ إننا نفتقدكَ. أنا أفتقدكَ. وأنتَ تُواصلُ كونكَ مُختلفاً. سيختبرُ العصرُ الذي سندخلهُ، القرنُ الحادي والعشرون، الروحَ بطرقِ مُنوّعةٍ. لكنكَ تعرفُ، طبعاً، أن بعضنَا لن يهجُرَ المكتبةَ. وستظلُّ أنتَ نصيرَنا وبطلَنا.
13 يونيو 1996، نيويورك
ترجمة: محمد عيد إبراهيم
المصدر: غاستون باشلار