وسط ساحة سوق شعبي في إحدى أزقة المدينة سقط أول الضحايا. كان بائع سمكٍ تفوح منه رائحة زنخ البحر وعرق الصيادين. له وجه حليق ببشرة خشنة وشعر كثيف وغرة تثير السخرية. يمسكُ سكيناً عريضة لقشط الحراشف لم تنفعه حين قرر مواجهتي. عطس مرتين، وأمسك رأسه، ثم اضطجع على جنبه محشوراً في الحيز الضيق بين بسطة أسماكه والجدار.
هرع إلى مساعدته صديقُه ومشتري عابر مدفوعين بغريزة الإنسانية التي ستنقرض لاحقاً.
شخصّ طبيب المركز الصحي حالة بائع السمك على أنه التهاب رئوي، ظنه بسذاجة مرضاً طارئاً يسهلُ القضاء عليه بكمية من المضادات الحيوية المعروفة. إلا أن المختبرات أظهرت النتيجة المرعبة بعد ازدياد التساقط تباعاً وامتلاء أسرّة المشافي.
إضرب واهرب..
لا يوقفني التردد، ولا الإحساس بالذنب. الشفقة أيضاً ليست خياراً موفقاً عندما تعرقل نجاحنا، القلوب الرخوة تفعل ذلك أيضاً، ما يجعلني أتحاشى التمعن في وجوه الأطفال وخدودهم الملتهبة، فلن أسمح لصغير يبكي أو شاب يتوسل أو عجوز يستند إلى عكازه بابتزازي عاطفياً حين أقوم بواجبي.
«الكورونا تتسبب بـ 565 حالة وفاة و28 ألف إصابة».
اكتشفوا أمري، وذاع صيتي.
عطسة عشوائية صارت كافية ليتبخر المارة، فيخلو الشارع خلال دقائق من أنسه وجانه، وتصطبغ المدينة بجمال كئيب كما لو كانت الحياة تحت مصباح أزرق.
الخوف من العدوى ضرب بين الناس مسافة جفاء، وأصبح الحذر وسيلتهم المعتمدة للبقاء. لا أحد يقترب من أحد. الكل مشغول بنفسه كي ينجو.
إعلان حالة الطوارئ لم يمنعني عن استئناف مهمتي، وإن جعلها أصعب. صرت أتسلل من ثقوب مفاتيح الأبواب المغلقة، أو فرجة نافذة تركت سهواً، وأنتشر في كل هواء ممكن، أستقر في مناديلكم ووسائدكم وقبلاتكم قبل أن تنتبهوا، لأواجه بشجاعة لا تتناسب مع حجمي الإجراءات الصحية الإحترازية، والوقت الذي يمضي قبل أن يكتشف الأطباء شفرتي الوراثية للقضاء عليّ.. الأمر الذي أعتبره مجحفاً حقاً، كأن الأرض فرغت من أهوال الحروب والأسلحة المدمرة والتلوث البيئي والكوارث الطبيعية وحرائق الغابات وحتى حوادث الطرقات اليومية، ولم يبق غيري.
ليس دفاعاً عن نفسي، ولكن عالمكم ينتصر للأقوياء ويبيد الضعفاء. تعالوا نحسب معاً أعداد الذين نفقوا جرّاء الجوع أو تجمدوا من البرد أو قتلهم الحزن. الموت ياسادة حدثٌ قديمٌ كان قبلي وسيبقى بعدي، فعدد الجثث بعظامها المتحللة تحت التراب، والأجساد المزينة بالورود التي نثروا رمادها في الأنهار والهواء الطلق أكثر من أن تعد وتحصى.
لم أعتذر عن مهمتي حين أوكلت لي، فليس من السهل قول لا على كائن هلامي مثلي.؟ عليكم أن تتفهموا حاجتي للبقاء.. للانتشار.. لكشف وجهي المرعب. أتلومون من لا يرغب البقاء نكرة مجهولة كمسمار تافه في عجلة الحياة..؟ إن كنتم شجعاناً اعترضوا على من أصدر الأوامر منذ البداية، ولا تفتحوا نيرانكم في وجهي وكأنني العدو الوحيد والشر الأكبر، فأنا لست إلا جزءً من مصيركم.. أداة أو وسيلة. ألا تتمنون الموت حين تضيق بكم الحياة، وتتحول على وسعها إلى خرم أبرة..! ألا تتمنونه لمرضاكم المقعدين في أسرتهم، وللعجزة الذين يعودون أطفالاً بلا أسنان ولا يستطيعون قضاء حاجاتهم..! نعم أنتم تفعلون ذلك رغم أنكم رحماء محبين.
التلفزيونات بكل اللغات تلاحقني، تذيع عبر شاشاتها تعليمات بوضع الكمامات واستخدام الصابون والبقاء في البيوت. مُنع السفر وطوقت المناطق الموبوءة، وأغلقت المدن.
قد يكون من الصعب إقناعكم بالنصف المليء من الكأس. النصف الذي تغضون الطرف عنه بعد أن بدلتم عاداتكم فصرتم تطهون وجباتكم في مطابخكم، وتطلّون على الجيران من نوافذكم، وتعيشون متعة العزلة مع عائلاتكم، وتمارسون تقشفاً اضطرارياً فلا مجال للمزيد من الشراء لمجرد الإقتناء. صار بإمكان كل واحد منكم أن يبحث في مرآته عن وجوده ووقته وعلاقاته فيما هو يجلس مسترخياً بملابس البيت المريحة.
رغم ذلك فأنتم تحولون حياتي إلى جحيم، شيئاً.. فشيئاً ومع الوقت الذي يمضي كرهت وجهي وملامحي واسمي كلما سمعته. بل وكدت أقدم استقالتي وأستغني عن مصدر رزقي عندما التقيت بتلك الصبية وذلك الشاب في أحد مراكز الحجر الصحي.
حكى لها:
أغلقَ حقيبة سفره وقد حشاها بسترتين وعدة غيارات داخلية وقميصه المفضل ومعجون حلاقته وغضبه من أبيه الذي سيجعله يغلق باب البيت ويستقل عدة قطارات يبدأ بعدها حياته في أبعد نقطة متاحة. لم يتفاهم مع أبيه يوماً. كان كما تصفهما والدته ديكان يتشاجران لأتفه سبب. سيكون لاجئاً ويدّعي أنه هارب من المقتلة السورية أو أنه أحد الناجين من مجزرة البوسنة، هناك الكثير من الإدعاءات لشخص مزق جواز سفره، ولابأس إن قال أنه يتيم ضائع، أو غراب مشؤوم. كان بحاجة إلى منفى حيث لا يتعثر بظله، أو بجذوره. ترك كل شيء خلفه ليبني حياته وحيداً، وقد كاد يبلغ الثلاثين.
حكت له:
جاءت موفدة من كليتها. صبية مشّعة تريد الالتحاق بورشة تخص الترجمة الفورية، كان حلماً أبعد من نجم لم تتوقع أن تطاله. ومنذ أن تقرر الموعد، وهي تخطط لكل صغيرة وكبيرة، بدءاً بإعداد البحوث المطلوبة منها وانتهاءً بملابسها التي ستُظهرها في مظهر لائق. غادرت قريتها الواقعة عند سفح هضبة حيث يعيش أهلها البسطاء يأكلون التفاح من الشجرة إلى بطونهم، والبيض من القن إلى المقلاة، والخضار من الأرض إلى أطباقهم. ودّعتهم بالدموع والقبلات، وركبت الطائرة لأول مرة في حياتها لترى بلاداً لأول مرة في حياتها..
التقى الغريبان في صالة الترانزيت.. وحيدان في الجانب الآخر من العالم بلا كمامات ولا وسائل حماية.. قادوهما مع آخرين إلى الحجر الصحي، وبين الأصحاء والمشتبهين بالمرض والمرضى حقاً نُسجت بينهما علاقة فريدة، الحب في زمن الكورونا.
يهمسان بأحاديث لا تنتهي. يطفحان باطمئنان يشع من وجهيهما. يرتعشان بحمى المشاعر الطارئة، ويتبادلان النظرات دون أدنى انتباه لما يدور حولهما.
الأمر الذي فتح شهيتي لإنهاء هذه الحكاية في بدايتها.
أي عمل كريه أقوم به!
*جريدة اشراق