سوزان خواتمي: مدن تشيخ

0

البارحة ماض قريب

المسافة لعنة الفراق، نوغل في الحنين كلما حملتنا الريح وأجبرتنا على الرحيل. وحين نعود -إذا ما عدنا- نطوف بذاكرة باهتة في محاولة بائسة لاسترجاع لون والتشبث بلحظة.

الماضي زمن مستبد.. مستحكم.. ومتحكم، في الوقت الذي تعتقد فيه أنك نسيت، يفيض ليغرقك. يباغتك بهجمات عاطفية أشد فتكاً من نزلات البرد، فتتحسس روحك المصابة. بالطبع أنت لا تتعمد التحول الى (كاميرا ديجيتل). أنت فقط تسترجع تفاصيل من حياتك، شذرات لأماكن ووجوه وحوادث تسترجعها أو تسترجعك -لا فرق- تحفظها من التشظي ومن التماهي.. ومن ثم من الغياب.

تقف عند هذه المحطة وتنسى تلك، ما دمت تتمتع بذاكرة تزداد شباباً كلما هرمت.

ذاكرة بالغة الغي، ملونة متحركة لم تأبه يوماً لعقدتك في الزمن ولا لتفسير بروست لنهره الجاري.

البارحة مجرد ماض قريب، وقبل عشر سنوات كان أيضاً ماض قريب، وكل ماض يحتلّك يشكل شيئاً من ملامحك. مد يدك فقط، فالماضي ليس تهيؤاتك وحدك، هناك من يحفر فيك تلك المساحات الشاغرة، ومحطات يتعسر عليك فهمها، انها خبرتك ودقة المقارنة ومسحة رومانسية منسية بين طيات أحداث متصلة لا تنقطع. إنها حكايات قديمة وأنت تنظر إليها من نقطة ثابتة كمن ينظر في مرآة. وحدها الأشياء تتحرك من حولك، أنت لا تكبر؛ الأماكن.. الوجوه.. الصور وحدها التي تشيخ.

عني شخصياً

كلما فكرت بالحنين عرفت ان حلب مدينة تسكنني، حتى بعد أن غادرت حضنها، أحبها، إنها وطني.. مسقط رأسي، ماذا يعني أن (يسقط) رأسك في حلب…! هل يبدو هذا مبرراً كافياً لولعي الجامح بها، أو لهجمات البكاء كلما عدت إليها أو رحلت عنها.!

خطفتني الغربة من حلب، وقتها كنت طفلة لم اكتشف بعد كل حدائقها السرية ولا شوارعها الخلفية ولا شجيراتها التي تتحفظ بأسماء العشاق، لذلك بقيت احب اكتشاف حلب التي تنتظرني وبقيت في كل عودة أشتاق.

لا شيء يبقى على حاله، تغير شارع طفولتي وربما أنا التي تغيرت، كنت طفلة تلعب بحذر على الرصيف في منطقة مرئية أمام ناظري أمها المشنوقة على الشرفة، واليوم أنا امرأة تتباطأ خطواتها تحاول تذكر ضفائرها وشورتها القصير وركبها المليئة بالكدمات.

أتحدث الآن عن (العزيزية) المنطقة التي ولدت فيها في الستينيات من القرن الماضي، كان حياً تنصل بعنجهية المناطق الجديدة من علاقاته بالحارة، متباهياً بحداثته. أبنية حجرية بثلاثة طوابق أو أربعة، وشقق صغيرة بسقوف عالية وجدران طليت بألوان الطيف كما اقتضت موضة تلك الأيام، وشرفات صغيرة متقاربة تحنو على بعضها البعض، تتكفل بنقل الأخبار والشجارات والنداءات وتأوهات الحب. أيامها لم تكن قد انتشرت بعد، عادة المظلات الساترة المقلمة بألوانها الكالحة وكمية الغبار اللاصقة بقماشها، فلا شيء يستدعي أن يتستر جار عن جاره، ما دامت حرمة الجار مصونة شفاهة.

كنت أسكن في الطابق الأخير من بناء بمدخل ضيق ومعتم وباب مشغول بقضبان حديدية تسمح لأقدام الصغار بتسلقها، والتأرجح. ما بين المدخل وبابنا ذا النوافذ الزجاجية أكثر من ثمانين درجة تلتف حول نفسها متصاعدة عمودية، أتسلقها لاهثة، وبالكاد أصل الحمام قبل فوات الأوان، أضرب خشب الباب بمقدمة حذائي فأترك تلك العلامات.

السلالم المرتفعة كانت تصل الأرض بالسماء، أو هكذا اعتقدت وقتها. اليوم أطلق نظري إلى الأعلى، لأفاجأ بأنها لم تكن سوى طوابق ثلاث…!

الذاكرة خوانة، لم تحتفظ بالأبعاد الحقيقية التي كانت، الشارع صار أضيق مما عرفته، والابنية التي تمتد على جانبيه فقدت ألقها السابق، وما عادت حجارتها بيضاء لامعة كما كانت. غرابة الغريب للغريب وشيء من الشيخوخة وسخام الزمن علق بها، فكبت.

كان الشارع متاحاً للعب البنات والصبيان، قلة السيارات وقتها كانت تساعد، أرى نفسي اركض على رصيفه أو أنط فوق مربعات مرسومة بالطباشير أدفع بقدمي قطعة مطاط سوداء (كعب).

أشحذ عاطفتي لأقبض على لحظة تفتقدني، تضايقني الأبعاد المختلفة، وشحوب المكان فكأنني اقترفت خطأ في حق الماضي. لم أشم رائحة (حب الآس) التي رافقت ذاكرتي طوال تلك السنين، رغم أني حركت أنفي في الهواء كجرو خبير، كل ما حصلت عليه رائحة غبار مختلطة بما تطلقه عوادم السيارات. الضجة صارت أعلى وتلاشى زعيق الصغار. يبدو أن أمهات المكان الجديدات لا يسمحن لأطفالهن بالنزول إلى شارع لا يخلو من المركبات والسيارات. الفراغ وهوة الزمن القاسي ابتلعا تلك النداءات الممدودة بأسماء عماد وحسان وميشيل وعدالة ومجد ومنى وسوزان.. اختفوا كلهم واختفت معهم خطط العصابات المتحاربة، والـ (كلال) التي تسمى البلي، وهي كرات زجاجية صغيرة كنا ننقفها بين اصابعنا لتضرب بعضها بعضها.

الفروق كثيرة وصور الأمس لا تلمع ، الشارع ليس ذاته ولا أنا هي ذاتي !

العزيزية قلبي الصغير

الأحياء أوطان صغيرة، “العزيزية” كانت مكاناً مثالياً لمزيج سكاني متعدد الثقافات والديانات، مدام (بيزر) جارتنا المسيحية. والأرمنية (أم جورج) التي كلما زارتنا تحدثت عن خطتها القريبة للحاق بإخوتها في أمريكا. وفي الطابق الأرضي (الأستاذ فرزند) الموظف الكردي المنتدب من منطقته في عفرين يدخل بيته متجهماً ويخرج متجهماً، هناك دائماً ما تضيق به أنفاسه. ونحن عائلة مسلمة، كذلك عمي الذي يقطن الطابق الأول كانت زوجته تحتفظ بمربى الباذنجان داخل وعاء زجاجي لتقدمه لضيوفها، وعند كتف الشارع بقالة (فرنسوا) المزدحمة بما يسيل له اللعاب، أصابع الشوكولا المغرية، وحبات السكاكر الملونة داخل أوعية شفافة، أراها جيداً حين أقف على رؤوس أصابعي متشبثة باللوح الخشبي المتحرك الذي يفصل بيني وبينها، فرانسوا فقط مسموح له بالمرور الى الداخل، آخر الحانوت المعتم قليلاً أكياس الخيش التي قد تحوي جثة أو شبحاً أو كميات من الأرز كما يعتقد أبي.

العم فرانسوا يملك دفتراً ضخماً، زوايا أوراقه صفراء مفتولة، يتدلى منه قلم رصاص مربوط بخيط دوبارة، به يسجل ديون زبائنه، وقتها كان الشراء بنظام الدفع المؤجل مألوفاً، فلكل بيت طلباته اليومية، ورغبات الأبناء المدللين من حلواهم المفضلة، أما تحصيل الديون فأول كل شهر.

مواسم وفصول

في الشارع الموازي تماماً لشارع بيتنا كان يمر نهر (قويق) قبل أن يجف ماؤه ويردم مجراه، بعد ان انشأت تركيا السدود على منبع النهر في أراضيها. لم أكن أفهم حيل نهر (قويق) ففي موسم الأمطار من كل شتاء كان يفيض. رغم أني أرى منسوب المياه يرتفع قليلاً، ولكنه أبداً لم يكن يتجاوز السور، ولم يغرق الشارع إلا أن البيوت تحت الأرض كانت تغرق. رأيت ذلك من خلال القضبان الحديدية التي تؤطر النافذة الضيقة وصرخت متعجبة، فالسرير كان يطفو كقارب وسط الغرفة وجارتنا عاجزة أمام الكارثة تقف عند الباب لا حول لها ولا قوة عند تبكي.

نهر(قويق) أرعن بمزاج متقلب عجيب، ففي فصل الصيف يجف تقريباً، وتتصاعد من مجراه رائحة منفرّة. تزداد الحشرات الهائمة وقرصات الناموس، والتي كانت السبب الأساسي في اللايشمانيا (حبة حلب) أما في الربيع فيتحول إلى كائن خرافي تغص ضفتاه بأزهار الاقحوان، تنسينا أضرار الأشهر السابقة.

هرباً من حر البيت تخرج العجائز كراسي القش الواطئة وأشغالهن اليدوية، الكنافاه وسنارات الصوف، أو صينية الفاصولياء لتقشيرها، وتجلسن أمام مداخل المنازل يتحدثن ويعملن ويراقبن المارة، يلقين التحية على هذا وذاك، ويتناقلن النميمة والاشاعات وأخبار الحي. الشارع أليف بوجوههن المتغضنة والمنطوفل القماشي الملون في أقدامهن.

تشتد الحرارة في شهر آب خاصة في النهار، ويعز النسيم. مع ارتفاع درجة الحرارة أتذكر “عيد الرشيش” الذي يصادف عيد العنصرة، أو قيام السيد المسيح، لنتراشق صغاراً وكباراً بالماء. كنا نتسلح بدلاء الماء والأباريق والكؤوس لدلقها دفعة واحدة فوق رؤوس المارة والعابرين والرفاق المتواطئين معنا، وفيما تتصاعد الشتائم حيناً والضحكات حيناً آخر، كان مخزون الفرح مباركاً مبللاً مضحكاً… وفرصة طيبة لإطفاء لهيب الحر، إلى جانب هذا الاحتفال التقليدي هناك أيضاً ” يوم الكسارة” في منتصف الليلة الاخيرة من حزيران ، له تخبئ النساء الأواني الزجاجية المشروخة والرخيصة، لأنه يوم كسر الشر، وطرد الأرواح الشريرة. كنا جميعاً نشارك في حفل اللهو والصخب، نستمتع بارتطام  الزجاج وتناثره وتشظيه، يمتلئ الشارع بقطع البلور المهشم، وتهددنا أمي باحتجاج لطيف كي لا نقضي على كؤوسها جميعاً.

ما بين صيف وشتاء مرت الأيام والرتابة وشطط المسافة. فتح الزمن ذراعيه على النسيان لولا بعض تلك الذاكرة وبعض الحنين.

كبرتُ ونقص نصيبي من الخيال، ومن شره الطفولة، وازدادت قائمة الممنوعات. ليتني عدت طفلة أو ليت شارعنا لم يشيخ.

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here