كنتُ ومازلت مهووسة بالكتب، لم أعتق كتاباً يقع بين يديّ دون أن أقرأه أو أتصفحه على أقل تقدير، وما بين كتب نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس وعبد السلام العجيلي وكلاسيكيات الأدب العالمي، ومنوعات من الأدب الروسي تأسست عوالمي الأدبية، تلك العلاقة القديمة الوثيقة حفزتني لأكون بين مجموعة من الأصدقاء قرروا استرجاع الأعمال الأدبية العالمية الكلاسيكية ومناقشتها.
تحمست للفكرة، فهي فرصة لتذكر علاقتي الأولى بتلك الكتب، واكتشاف مدى تغير انطباعي عنها –إن كان ثمة تغير- فالوقت والعمر كفيلان بتجديد الأفكار واكتشاف زوايا جديدة في الرؤية. عندما وقع الاختيار على رواية (مدام بوفاري) للفرنسي جوستاف فلوبير، كنت على يقين بأنني قرأتها في وقت ما، ولكني وحين أمعنت التفكير لأتذكر ولو شيئاً من أحداثها، لم أجد في رأسي سوى صورة مشوشة لامرأة بائسة بأزيائها الفكتورية، لا تعجبها حياتها، فتنزلق في درب الخيانة.
النسيان وجدوى التذكر
أنهيت الصفحات العشرون الأولى.. ثم الثلاثون.. وحتى الخمسون من الرواية إلا أنني فشلت في استرجاع تفاصيل الحكاية، كنت كمن يقرأ وللمرة الأولى عملاً حديثاً صدر عام 1856!
لم أفلح في استعادة الحبكة أو التقاط ملامح الشخصيات الرئيسية، وبالتالي لم ألتقط ما يؤسس لأية نوع من المقارنات مع قراءتي السابقة التي تحولت إلى ضباب كثيف، ولم تكن تلك المشكلة الوحيدة من إعادة قراءة مدام بوفاري، فأنا – للأمانة – لم أنهِ الرواية إلا بشق النفس.
كنت أقفز بين السطور لأتجاوز صفحة أو صفحتين مكتفية بقراءة بصرية سريعة، لأن (فلوبير) مع احترامي لقيمته الأدبية، وجهوده الواضحة في نقل صورة متكاملة عن التقاليد والصراعات والقيّم المجتمعية السائدة في القرن التاسع عشر في فرنسا، فقد كان يراهن على سعة صدري كقارئة، فالأحداث تتمدد أفقياً في دوائر بطيئة تتسع ولا يتنامى الصراع إلا في فترات متباعدة، أما السرد فيعتمد على الوصف وشرح أدق التفاصيل من مكونات وأثاث وملامح وإيماءات، فيصور على سبيل المثال لحظة انطلاق الخيول التي تجر العربات، وتصاعد أبخرة السماد، وشكل الحظائر، ومقدار ارتفاع المخازن، ولون المفارش المخملية المطرزة بالقصب، وتصفيفة شعر بطلة الرواية إيما وذيل فستانها الجرار! بل إن وصف (أيونفيل-الدير) القرية التي انتقلت إليها عائلة الطبيب شارل استغرق ثلاث صفحات ونصفاً.
نوبات الملل التي انتابتني، جعلتني أتساءل عن قيمة الأعمال الكلاسيكية حين نقيسها بمعايير اليوم! وهل الذائقة الأدبية تختلف بمرور الزمن؟ وما السبب وراء شهرة تلك الأعمال؟ وهل أسست فعلاً لأسلوب الرواية الحديثة، بمعنى أنها خطوات متسلسلة لا بد من أحدها للوصول إلى الأخرى؟.. ولماذا يتحتم علينا قراءة الأعمال الكلاسيكية أو حتى إعادة قراءتها؟
الهدف من الأدب
ربما لم أجد أجوبة قاطعة، ولكن لنعترف بأن ايقاع الحياة السريع ماعاد يسمح بتخصيص فترات طويلة للقراءة. يقول الصحفي والشاعر آرنولد بينيت في كتابه (الذوق الأدبي) بأن “السرد الذي يعتمد على الوصف والإنشاء، ونقل حيثيات الفضاء الزماني والمكاني دون أن يكون لتلك التفاصيل مهمة واضحة يقتل متعة القراءة، ومع ذلك فإن قراءة الكلاسيكيات هي الطريقة المثلى لتشكيل الذوق الأدبي ونضوج الملكات النقدية عند القارئ”
كما يقدم الكتاب منهجاً متكاملاً لاختيار الأعمال الأدبية المهمة، ويوضح السبب في افتقار أسلوب الأعمال الكلاسيكية للجاذبية، ليصل في الاستنتاج إلى أن الاهتمام الحقيقي بالأدب لا يقتصر على المتعة ومجرد الاستمتاع، فتتبع سلوك الشخصيات ودراسة دوافعهم وطبيعتهم أمور علينا ملاحظتها والاهتمام بها أثناء القراءة، وهي الطريقة المعقولة لتجاوز الملل.
بالعودة إلى مدام بوفاري نجد بأن فلوبير نجح إلى حد بعيد في تحليل نفسي لشخصية إيما الزوجة الرومانسية الساخطة التي تنفر من حياة الريف، وتتطلع إلى بذخ الأثرياء وحفلاتهم الراقصة، ثم تخون زوجها الطبيب البسيط المشغول، وتتنازعها مشاعر الندم حيناً وعدم المبالاة حيناً آخر، إلا أن رغباتها في الحصول على ما لا تملكه حوّل حياتها إلى مأساة تنتهي بانتحارها، وانتحار زوجها.
الرواية التي أسست للمدرسة الواقعية في الأدب تشرح العلاقات الطبقية وتفضح المجتمع البرجوازي، واعتبرت في وقتها أنها تتجاوز الآداب والأخلاق العامة وتحرض على الرذيلة.
لعل فرادة الأدبيات الكلاسيكية تغفر لها افتقارها إلى الأسلوب الجاذب، ومن المفيد الاطلاع على الظروف التي أحاطت بكتابة تلك الأعمال وسيرة حياة الكاتب. أما مشكلة نسيان ما سبق لنا قراءته، فيوضح عالم النفس الألماني (هرمان ابنجهاوس) بأن الدماغ لا يحتفظ إلا ب 20% من المعلومات مالم يتم تكرارها، ولعل إعادة قراءة رواية (مدام بوفاري) هو تكرار سيجعلني لا أنساها.
*تلفزيون سوريا