مع إعلان نتائج الثانوية العامة أجرت الفضائية السورية حواراً مع وزير التربية “دارم طباع” لمناقشة إشكاليات الامتحانات، ومعدلات النجاح، والطاقة الاستيعابية للمدارس وغيرها من القضايا التي تشغل بال المواطن، وهو أمر جيد وفي توقيت ممتاز، لكن من تابع اللقاء أصيب بصدمة فكرية كافية لقلب مفاهيم الهرم المعرفي والمنهج الاستنباطي!
توجه السيد الوزير بعدة نصائح لـ” توعية الأهالي” على أهمية التعليم المهني، وتشجيع أولادهم لاختصار سنوات الدراسة الجامعية الطويلة، واختيار درب المعاهد القصير، وشرح فائدة ذلك بفرص الدخول إلى سوق العمل والكسب المادي السريع، ويستنتج قائلاً: “أيهما أفضل الطبيب الذي يعمل سنتين ليجني مليون ليرة، أم العامل الذي يقبض 300 ألف ليرة في يومين!”.
وأضاف: “بأن سوريا تحتاج إلى عدد محدود من الأطباء، ومجالات العمل تتجه نحو الزراعة والصناعة والتجارة والسياحة، وعلى الناس تغيير مفاهيمهم القديمة بتفضيل الطبيب على مصلح السيارات!”.
ربما يملك السيد الوزير عقلية التاجر، فيرجح على أساسها المهن الحرة على التعليم العالي، وهو شأنه الخاص في الحياة العامة، أما بصفته الوزارية فالمفروض أنه يتحدث بناء على خطة استراتيجية تعتمدها الدولة، وهذا ما يجعلني أستغرب طرحه التجاري ونصائحه في إثراء التعليم المهني على أهميته، في الوقت الذي يصرح فيه مسؤولون عن نقص حاد في الكوادر الطبية وعدد الأطباء عامة وفي تخصصات معينة.
أزمات التعليم في سوريا
تؤكد الإحصائيات تراجعَ التعليم الأساسي، نتيجة الحالة الاقتصادية السيئة وظروف الحرب والتنقل، وانعدام الحافز التعليمي حيث [يقدّر المركز السوري لبحوث السياسات عدد الأطفال ممن هم في سن تتراوح بين الخامسة والسابعة عشرة، وغير ملتحقين بالمدارس في عام 2019، بنحو 2.3 مليون طفل] وتشير بيانات رسمية إلى [انخفاض نسبة المسجلين في الصف الأول الابتدائي بنسبة 40%].
أما في التعليم الجامعي فهناك نقص في كوادر الهيئة التدريسية، وفي القطاع الصحي وكذلك الأمر في عدد المهنيين والحرفيين والمهندسين والفنانين، وبالتالي فظاهرة الوظائف الشاغرة لا تقتصر على حاملي الشهادات.
ما تعانيه البلاد من أزمات تعليمية تحتاج إلى حلول آنية وأخرى بعيدة المدى، للنهوض بمخرجات التعليم ورفع وعي الشباب باتجاه تعزيز قيمة العلم والمعرفة. فما الذي قدمته الدولة كخطة استراتيجية لإنقاذ التعليم؟
الدولة -الأمنية بامتياز- حاصرت الطلبة وحددت اختياراتهم أولاً برفع المعدلات (القبول الجامعي)، وثانياً بتشجيعهم على المعاهد المهنية (لقاء السيد وزير التربية)، وثالثاً بإصدار مرسوم رئاسي يقضي بإلزام الأطباء والكادر الصحي على خدمة الدولة لمدة عشر سنوات قبل أن يحق لهم تسلم مصدقات تخرجهم..
نتيجة هذا التوجه سنواجه عجزاً أكبر في أعداد الأطباء والصيادلة، والممرضين، فأنا نفسي اقتنعت بأن قضاء عشرين سنة عشر منها للدراسة والتخصص وعشر مثلها لخدمة الدولة ضياع حقيقي للعمر.
الكثير من الدول تستثمر الطاقات البشرية بالتوجيه نحو اختصاصات محددة وفق المتطلبات، وقد ترفع نسب القبول في الكليات لحاجتها إلى مهن بعينها من جهة وتعطي امتيازات لجهة ثانية، ولكنها لا تفرض شروطاً تعجيزية لمن يرغب باستكمال دراسته أو اختيار تخصص ما وفي أي وقت يشاء..
في عودة لتحليل تصريح السيد الوزير خلصت إلى بعض الاستنتاجات:
- “السيد الوزير” يقدم حلولاً تزيد من التضييق على الطلبة والطالبات من دون أن يأخذ بعين الاعتبار تراجع المستوى الدراسي في جميع المراحل التعليمية، ولا أعداد المتخلفين عن التعليم، ولا الشعور العام في الجيل الجديد بعدم جدوى المستقبل.
- “السيد الوزير” لا يهتم بعواقب تجهيل المجتمع، عندما يتناقص عدد خريجي الجامعات والذي سيضمن لنا موقعاً ممتازاً في آخر ركب الحضارة.
- أن الشعب السوري لا يحتاج إلى مزيد من الأطباء والأكاديميين، فسقف المواطن أن يملك الحد الأدنى للمستوى المعيشي، وأقصى طموحه ألا يرد اسمه في تقرير أمني يقضي عليه.
- “السيد الوزير” غير مؤهل لإيجاد حلول للفجوة التعليمية ومحددات النهوض بالتعليم، كما يتناقض طرحه مع حاجة البلد إلى أًصحاب شهادات عليا، تماماً كحاجتها إلى مهنيين وحرفيين.
أما خطته التنموية ومنطقه التجاري في الربح السريع، فلا يؤدي إلا إلى تحويل شعب عريق إلى عمالة..!
*تلفزيون سوريا