صدرت رواية «الساعة الخامسة والعشرون» للكاتب الروماني قسطنطين جورجيو بعد أربع سنوات من نهاية الحرب العالمية الثانية، والتي عايشها جورجيو، واستعرضها داخل السياق الزمني للرواية. ووفق ذلك يمكن اعتبار الرواية شهادة تاريخية لتلك المرحلة، بل وتقاطعت في بعض أحداثها مع حياة الكاتب الشخصية، فقسطنطين جورجيو الحائز على جائزة نوب لعام 1948، اعتُقل وزج في معسكر الأميركان بتهمة التحالف مع النازية، حاول الاحتجاج فأضرب عن الطعام، محاولاً الانتحار، ثم وضع في مشفى المجانين، ويتفق هذا الشريط مع ما تعرضت له شخصية تريان كوروغا. «يخسر الكائن البشري وجوده منذ أن يصبح تعطشه للحرية والعدالة رمزاً لجنونه». تقوم الرواية في بنيتها الكابوسية على حكايتين، الأولى تتعلق بالفلاح البسيط يوهان مورتيز، فأقصى أحلامه تقتصر على مغادرة قريته في رومانيا، والسفر إلى أميركا ليدخر بعض المال ويشتري أرضاً صغيرة ويتزوج سوزانا. لكن حظه البائس يجعله عرضة لمتوالية تراجيدية من المآسي لا تعد ولا تحصى. تتحول وجهته تماماً، ويقبض عليه بتهمة ملفقة كيدية على أنه يهودي، فيساق إلى المعتقل، ويقوم بأعمال السخرة، وحين يهرب إلى هنغاريا، يعتقل ثانية لكن بتهمة مختلفة هي أنه روماني معادٍ، ونتيجة ذلك يرحل إلى ألمانيا ليرسل الى معسكرات النازية. وفي كل مرة تتم معاقبته ضمن دوامة الهويات القاتلة. من سجن إلى سجن لكن، ورغم هذا المصير العبثي فان مورتيز لا يبدو حانقاً، بل خاضعاً لمصيره. فحين يقرأ له صديقه عريضة شكوى ستقدم للمسؤولين للنظر في حالته يبكي، لأنه لم يكن يتصور نفسه مظلوماً إلى هذه الدرجة! وحتى خطط الهروب لم يكن هو من يدبرها، كل ما في الأمر أنه يرافق أشخاصا يطلبون مساعدته، ثم سرعان ما يتخلون عنه، حيث يصبح حب الذات والنجاة بالنفس غاية بحد ذاتها. خلال ثلاثة عشر عاماً من عمره يتحول مورتيز إلى رقم وينتقل من سجن الى سجن ومن معسكر الى معسكر، لا يجد من يمد يده لعونه أو الوصول به إلى النجاة، رغم يقينهم ببراءته، لكن ما أسهل تحول الضحايا إلى جلادين! الفرار تتقاطع الحكاية الثانية في مصيرها مع الأولى وتدور حول تريان كوروغا الكاتب ابن الكاهن، وهو من قرية مورتيز، فانتانيا. رغم ظروفه المختلفة، لكن الحرب أيضاً تحطمه، يتزوج كوروغا فتاة يهودية، وليهربا من الملاحقة التي تتعرض لها زوجته يحاولان الفرار إلى اميركا، لكنهما يعتقلان، وأيضاً لا يرغب أحد في تفهم وضعهما ولا تقديم المساعدة، فهما مجرد أرقام في المعتقل يعاملون وفق البيانات، ورغم أن كوروغا يثابر على إرسال رسائل الاعتراضات، والشكاوى، سوى أنه في آخر المطاف يستسلم ليأسه، ويتجه إلى منطقة يحظر على المساجين الاقتراب منها، فيقتل برصاص الحراس. عدا عن كل التفاصيل المرعبة للأحداث التي جرت في أوروبا إبان الحرب العالمية الثانية، فإن أهمية الرواية، تكمن في أنها صرخة تحذيرية أطلقها قسطنطين قبل 67 عاماً في وجه العالم المعاصر، محذراً من كارثة الأنظمة الشمولية، القادرة على إلغاء الفرد، وتذويبه وتحويله إلى جزء من مكنة تُحرك المجتمعات البيروقراطية، وتُدار باسم الحداثة والتقدم والتكنولوجيا، لكنها في واقع الأمر تجرد الإنسان من إنسانيته. «هناك بعض الميتات التي لا تخلف وراءها جثثا، فالحضارات مثلاً تموت». واقع متخم بالفوضى لم أقرأ هذه الرواية سابقاً رغم شهرتها، لكن قراءتها أو إعادة قراءتها في هذا الوقت، ونحن محاصرون بواقع متخم بالفوضى والامتهان والقتل والحروب، يبدو مهمة ليست بالسهلة، إذ تزدحم الاسقاطات، والقياسات، والمقارنات، وكلها تبدو كتنبؤات لا يمكن إغفالها، أو عدم التفكير بقدرة الأدباء على كتابة نصوص عميقة، مهمة في وقتها، وتبقى كذلك في أزمان متقدمة. نصوص تخترق زمانها ووقت نشرها لتصبح في حد ذاتها معياراً لما يحدث اليوم أو مقياساً للمقارنة بما سيحدث غداً. رواية الساعة الخامسة والعشرون، هي لحظة اختلال العالم، بحيث لا يعود إلى صورته الأولى، فالحرب مجنونة – وهي كذلك بالفعل سواء كان المقصود بها الحرب العالمية، أو الحرب الباردة، أو حروب المنطقة العربية- تنهي مفهوم الانسانية وتقسم البشر وفق طوائفهم وانتماءاتهم وأعراقهم، وتحاكمهم على هذا الأساس. يبقى أن نضيف بأن تقديم د. عبدالله ابراهيم الذي تصدر الرواية محفز ودافع لقراءة متأنية، فالكتاب يعد وفق توصيفه «الأفضل بعد جمهورية افلاطون»، وقد ترجم الى أكثر من 40 لغة، وتتكرر طباعته في نسخ متعددة، أما النسخة التي قرأتها فهي التاسعة والصادرة عن دار مسكيلياني- تونس.
- المصدر: جريدة القبس