كيف ينجح فيلم في عرض مفاهيم مجردة، كالمسؤولية الجماعية وإرادة التغيير والبنية المجتمعية واستبداد السلطة من غير أن يخل بأدواته التشويقية كالحبكة وحركة الكاميرا وحيز المكان. ؟!
نتحدث هنا عن [the platform-المنصة] وهو فيلم خيالي إسباني من إخراج غالدير غاستيلو أوروتيا عرض –بحسب ويكيبيديا-في مهرجان تورونتو السينمائي عام 2019، ويتواجد ضمن القائمة التنافسية في موقع نتفلكس باعتباره أحد الأفلام الأكثر مشاهدة في معظم بلدان العالم.
تدور الأحداث بطريقة سيريالية في سجن عمودي يتألف من 333 طابق. كل طابق يحتوي على سجينين اثنين يتقاسمان منصة طعام تهبط يومياً بدءاً من الأعلى نزولاً نحو الأسفل، وهذا يعني أن المائدة الزاخرة بما لذ وطاب تتناقص محتوياتها تدريجياً، إذ لا يستطيع السجناء الاحتفاظ بلقمة إضافية عما يأكلونه في المدة الزمنية المحددة والتي لا تتعدى الدقيقتين. الطعام يكفي كل الطوابق فيما لو وزع بشكل عادل، ولكن الأمر لا يحدث على هذه الصورة العقلانية النموذجية، فغريزة البقاء، وربما الشرّ والأنانية والنهم، تجعل مكونات المائدة تتناقص وتتحول إلى نفايات ثمّ تتبدّد بحيث لا يبقى لمن هم في الطوابق الدنيا ما يسدّ رمقهم، فيلجؤون إلى قتل شركائهم في الزنزانة وأكلهم، أو يتعرضون للموت جوعاً بكل بساطة. لحسن الحظ أو لسوئه فإن موضع السجناء يتغير كل شهر بشكل عشوائي، إذ يتم نقلهم بين الطوابق، إلا أن هذا التبديل لا يحسن سلوكهم، فمن نجا من معاناته سابقاً لا يفكر بمن احتل مكانه.
بطل الفيلم “غورينغ” والذي دخل السجن برغبته في سبيل الحصول على شهادة دبلوم، بما يوحي أنه من الطبقة المثقفة، يسعى إلى إيجاد وسيلة تضامن تؤمن حياته خلال فترة سجنه وتنقذ المقيمين في الطبقات السفلية من مصيرهم المحتوم، ولكن هل هناك من يسمعه داخل هذا الحيّز المرعب من العزلة ومن خوف الجوع؟ وما الذي سيتعرض له حين يحاول إقناعهم؟
يصعب توصيف الفيلم على أنه جميل أو ممتع، فخلال 94 دقيقة من الأحداث السوداوية لا تخلو من مشاهد مقززة، يتحتم علينا التعامل معها باعتبارها رمز لواقع بشع يظهر جلياً عندما تنكشف طبقة الحضارة الهشة خلال الأزمات، فالإنسان ينقلب إلى وحش عندما يتعرض إلى ما يهدد حياته. الصراع يعري وجه العالم القبيح ويفتح باب التفكير لطرح تأويلات عدة تحتملها القصة، ما أعتبره إنجازاً يستحق متابعة الفيلم المثير للأعصاب، فمسألة طبقية المجتمع واستبداد السلطة، قضايا سبق أن تناولتها عدة كتب أذكر منها على سبيل المثال رواية 1984 لجورج أورويل عندما يتحول الإنسان إلى رقم في قطيع بشري.
لعل مسألة توزيع الثروات قضية قديمة شغلت البشرية، فهل هناك ما يكفي الجميع بين أغنياء (القوى العظمى المتحكمة) وفقراء (الدول الأقل شأناً)؟
نعم بالتأكيد. إلا أن القواعد الأخلاقية تتلاشى عندما ترتكز الحياة على غريزة البقاء الشرسة (إما أن تأكل أو تؤكل). لماذا يصعب إقناع الآخرين بضرورة توزيع الحصص؟ ولفرض إرادة التغيير من أين نبدأ وكيف؟ هل يمكن للتضامن الإنساني أن يكون إرادياً وطوعياً، أم أن القوة وحدها قادرة على تأسيس نظام ينقذ البشرية…؟ هل يبدأ إصلاح الأوضاع من أعلى الهرم أم من الأسفل أم هي قضية تخص الطبقة الوسطى؟ كيف للتغيير أن يحمل رسالة مقنعة، وهل نحتاج القوة فقط أم للحكمة أم للأمل؟
يحفل الفيلم بالعديد من الإسقاطات، فأية محاولة لتفتيت الأنظمة القائمة ستبوء بالخسران، وسيبدو فرض ذلك على أصحاب السطوة المستغلين والمتنعّمين، أو إقناع من يتضور جوعاً أمرين مستحيلين، ما يدفع غورينغ السجين المثقف لأن يضحي بنفسه ليفرض “بالقوة” توزيع حصص الطعام.
حسناً.. في النهاية يبدو أن من يصنع التغيير لا ينعم بالنتائج، بل يتركها للأجيال القادمة التي قد تبشر بمستقبل ما.
*المصدر: إشراق