سوار ملا: شاهين ليس خائفاً من القاضي التركي

0

بحثتُ في محرّك “غوغل” عن “شيء كردي” في مدينة “إسكي شهير” الأناضوليّة، فدلّني بمعرفته الواسعة على مجموعة شبان يقيمون في بناءِ جمعية مدنية تناصر حقوق الإنسان، حلقات أسبوعيّة لتعليم اللغة الكردية. فراسلتُ من فوري شاهين وهو المُدرّس المُتكفّل بتعليمِ الكرديّةِ، والتقيتُه في اليوم اللاحق في مقهى تملكه عائلةٌ عربيّةٌ جاءت قبل نحو عقدين من قرى أنطاكيا. شربنا معاً شاياً بالليمون، وتعارفنا. كان لقاؤنا دافئاً لكأنه بين صديقين قديمين، وتبدى لي في تلك الوهلة أننا مُقبلان على صداقةٍ نقيّةٍ خلال أشهر إقامتي الجامعيّة الخمسة. توالت بعدها لقاءاتنا. كان شاهين، المولود في قرية بريفا على هضاب ماردين الكلسيّة والقاطن منذ واحدٍ وعشرين سنة في حواري إسكي شهير، يقضي جلّ وقته في هذه المدينة الباردة منكباً دونما كلل على تعميق معارفه باللغة الكردية، معرّضاً نفسه بذلك لأخطار شتى. فمرَّةً اقتحموا بيتَه في الصباح الباكر، وكان لم يزل يقظان يقرأ في كتابِ جلادت بدرخان “المُغنِّي”. ونام على إثرها في السجن أشهراً ثلاثة ليخرجَ منه بنصفِ وزنه.

“إنّني مقهورٌ؛ هكذا، بهذا الأسى، يُفنى عمري بين هؤلاء الأخوةِ الأعداء؛ يُقهرني أن تتحلَّل ثقافتي أمام عيني وتتفسَّخَ لغتي مثل طريدةٍ منسية بين الوحوشِ”، يقولُ في كلّ مرَّةٍ يدلّني فيها على أكرادٍ في المدينةِ نسوا لغتَهم. كان شاهين، الذي دخل عقده الرابع نحيلاً كعصا، يدمعُ كالطفلِ كلما تطرّقنا إلى مشقّاتِ العيشِ الكثيرةِ، فأغيِّرُ، بعجالةٍ، دفة الحديث صوب الشعر الكرديِّ أو قواعد اللغةِ، فيستعيدُ قواه ويتحمَّس كما يفعل في كلّ مرَّة ليتلو علي بصوتِه الرخيم أمثلةً شعريَّة تُشعِره بجماليَّةٍ تتفرَّدُ بها الكرديّةُ عن سواها من لغات يعرفها؛ كأن يقرأ لي قصائد لريناس جيان، لا سيما قصيدةَ “جانيا” المحببة إليه، أو مقطعاً لعبدالله بيشو يبدأ بالعبارة التاليْة: “كان ذلك في القرن الثالث عشـر، حـين مـر (هـولاكو) بكـردسـتان كالطـاعـون”؛ أو يجرّني لنحاول معاً قراءة شيركو بيكه س باللهجة الصورانيّة الدافئة.

تعرّفتُ من خلال شاهين إلى رفاق آخرين أعدّهم، بلا تردُّد، أثمن ما حصلت عليه في تجربتي التركية بأسرها. البروفيسور “أوزان”، تركيّ المنبتِ، إنسانيّ الهوى، والمفصول حالياً بقرارٍ رئاسيٍّ من وظيفته في جامعة الأناضول، إضافة إلى الشابّين الجامعيين محمود وطارق وعبرهما الناشطة الحقوقيّة التي تضجُّ حيويّةً، مزكين. ولكلّ هؤلاء قصصٌ كثيرةٌ في بلدٍ لا تبدو لمآسيه نهايةٌ؛ لكن، فلنعد الآن إلى الرفيق شاهين، عامل البناء طوال النهار والمشغول بنقاشات اللغة والأدب الكرديين بعيد غروب الشمس، رجلٌ عصامي جسور لا تردعه الظروف الشائكة في البلاد، بل كانت، على الدوام، تزيده تمسّكاً بمعتقداته وإصراراً على تجذير معارفه ونشرها بين صحبه بلا تقاعس.

أتتحدَّث بعد السابعة مساءً حول مسألة لا تتعلَّق بالكرديَّة ومشقّاتها اللانهائية؟ أسألهُ مازحاً، فيردُّ جادّاً: “لا أذكر حقّاً.

– متى تنام يا شاهين؟

– ليس قبل الواحدة والنصف صباحاً.

– لكن يتوجب أن تكون في السابعة على رأس عملك، أليس كذلك؟

– بل في السادسة والنصف عليّ أن أكونَ هناك، لابساً قفازَيّ.

– أنت تستحقّ السجن يا شاهين، لا لشيء بالطبع، بل لترتاح قليلاً، يا رجل”.

فنضحكُ معاً على ظهرِ سفينة تعبرُ مياه “البورسوك” أسفل غيمةٍ تخفي عنا بريق الشمس الناهضة.

كثيراً ما يغيب شاهين في أيام العطلِ عن إسكي- شهير، إذ يسافرُ مع رفاقه إلى مدنٍ وبلدات أخرى لمناصرة مضطهدين في السجون أو لحضور تظاهراتٍ هنا واعتصامات هناك. 

شاهين، محاكمتكَ في الرابع عشر من شباط/ فبراير المقبل، ها أنا أحملُ الإبلاغ في يدي، تقولُ أخته شيرين عبر الهاتف بكرديّةٍ أفهمُها، عبر مكبّر الصوتِ، بيُسرٍ، فلا تبدو عليه أمارات الخوف، يرتبكُ قليلاً، لكنه سرعان ما يعودُ كما نعرفه، متماسكاً، ضاجّاً بالحياة.

مَنْ ستختار لزيارتك لو دخلتَ السجن، شاهين؟ يسألهُ الدكتور أوزان مبتسماً. فيجيبُه بكلماتٍ واثقة: “تماماً مثلما فعلتَ أنتَ في السابق… أنتَ وزينب وأمّي”.

لم أستطع حينها أن أقول أي شيء. بدا حديثُ الحاضرين عن احتمال السجن عاديّاً كأنّه عن أشياء يوميّة، لكنّه كان مثار قلقٍ هائل لأحدٍ مثلي ترعرع في بلدٍ صُيِّرت بواطنه سجوناً مديدةً ليصبح كياناً وحشيّاً ثروته الباطنيّة قضبانٌ حديديّة صلبة وأشلاءٌ بعظامٍ محطّمة. لبسني الخوفُ كالحمى وبردت أطرافي، فاستأذنتُ منهم مبكِّراً على غير عادتي، ورحتُ أمشي في جهةٍ مجهولةٍ من دون أن تفارقني طوال الطريق نبرة شاهين وقتَ نطقَ: “وأمّي”.

(درج)