كشفت قائمة البوكر القصيرة، المعلنة منذ أيام، عن مدى استجابة الهيئة المانحة لمعظم الملاحظات التي وجهت إليها في عدة مناسبات سابقة، سواء ما تعلق منها بالتحيز للكتاب البيض، أو بضآلة نسبة الكاتبات حد التجاهل تمامًا عام 1991. ولعل أسوأها على الإطلاق حين وصفت رواية “أطفال منتصف الليل” لسلمان رشدي بـ “قاتلة الجويسية” و”مناهضة البروستية” في حين صرح رئيسها آنذاك أنه لم يقرأ جيمس جويس ولا مارسيل بروست واكتملت الطامة بإضافته الصادمة “لم أرغب يومًا في منح الجائزة لكتّاب مثلهم”. فاز رشدي بالبوكر عام 1981، و”بوكر البوكر” عام 1993 بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين للجائزة، وكذلك جائزة “أفضل الفائزين بالبوكر” عام 2008 بمناسبة الذكرى الأربعين للجائزة.
في عام 2013 أثارت الجائزة لغطًا بفتح أبوابها أمام جميع الجنسيات، فيما وصف آنذاك بأمركة الجائزة، الأمر الذي تردد صداه بعد إعلان القائمة الطويلة المؤلفة من 13 عنوانًا في يوليو/ تموز الماضي، واستحواذ أميركا على نصفها تقريبًا، لولا أن تداركت اللجنة باختيار ستة عناوين روعي فيها أن تشمل خمس جنسيات مختلفة من أربع قارات، فضلًا عن عدد متساوٍ من الكتاب الذكور والكاتبات. وهو ما لخصه رئيس لجنة التحكيم نيل ماكجريجور بقوله: “تدور في أماكن مختلفة وفي أزمنة مختلفة، وتتناول الأحداث التي تحدث في كل مكان تقريبا، وتتعلق بنا جميعًا”.
وجهان لعملة واحدة
ألن غارنر هو الكاتب البريطاني الوحيد في القائمة، كما أنه أكبر كاتب يترشح للبوكر منذ تأسيسها عام 1969. ربما لهذا استحوذ عليه هاجس الموت أثناء كتابة روايته “تركل ووكر”، لا من باب الحرص على الحياة كما قد يُظن، وإنما حرصًا على المضي قدمًا بشخوص روايته حتى نقطة بعينها، ما جعل أصحابه؛ فيليب بولمان ونيل جايمان ومارجريت أتوود، يمازحونه بأن تلك الرواية تحديدًا ستكون روايته الأخيرة بلا شك.
لكن الرواية التي كتبت تحت هاجس الموت، تتنافس الآن على البوكر التي يتصادف يوم الإعلان عن فائزها النهائي، مع عيد ميلاد غارنر الـ88، ولو حصل بالفعل عليها، يمكن اعتبارها بمثابة هدية من وجهٍ، وتتويجًا من الوجه الآخر، كما هي الحال في روايته المقتطعة من قلب الأسطورة وميكانيكا الكم المرعبة، والتي تتبع صبيًا يدعى جوزيف كوبوك يلتقي برجل رث الثياب ممصوص الجسم يدعى تريكل ووكر، كلاهما وجهان للشخص ذاته. يقول غارنر في حوار معه: “جوزيف كوبوك هو أنا الذي كان بوسعي أن أكونه لو لم أتلقَ التدريب الأكاديمي القاسي الذي تلقيته. أما تريكل ووكر فهو ما كان بإمكاني أن أكونه لو لم أقفز من السفينة في أكسفورد وأحيد عن طريق الأوساط الأكاديمية”.
تعود جذور رواية غارنر إلى حديث مع صديقه بوب سيوينسكي، عالم الفيزياء. أخبره فيه عن شخصية تاريخية، متشرد محلي يدعى والتر هيليويل، معروف باسم تريكل ووكر. ادعى أنه قادر على علاج كل شيء عدا الغيرة. كانا يتجولان، فجأة توقف غارنر قائلُا له: “اكتب في دفتر ملاحظاتك أنه في ظهر يوم الأحد 15 تموز/ يوليو 2012، ألهمتني فكرة، وقدمت لي كتابًا”. ما أثار انتباه غارنر كان المعنى الأصلي لكلمة تريكل: المعالج. يقول غارنر مندهشًا “لكن والتر هيليويل، المتشرد، لم يكن يعرف ذلك، وهكذا عرفت أن شيئًا ما كان حقيقيًا”.
لطالما كان غارنر منشغلًا بالزمن. عندما كان طفلًا، عانى من ثلاثة أمراض – الدفتيريا والتهاب السحايا والالتهاب الرئوي – كل منها جعله يقترب من الموت ويلزمه الفراش لفترات طويلة حتى أصبح السقف الذي يحدق به ثلاثي الأبعاد كما أصبح الوقت مرنًا. يقول غارنر: “لقد أظهر لي السقف أن الوقت ليس مجرد ساعة”، ويستهل روايته باقتباس من الفيزيائي الإيطالي كارلو روفيلي: “الوقت جهل”. ويبدو تأثره عبر الرواية بحديثه مع سيوينسكي حول ما إذا كان من الممكن نظريًا أن يعود الزمن للوراء. يقول: “ما تظهره لك فيزياء الكم هو أننا نصمم كوننا من أجل التأقلم معه، لأنه لا يوجد شيء اسمه الآن. فحين تنظر إلي، وحين أنظر إليك، تحت سطوة سرعة الضوء، فأنا أنظر إليك وأنت تنظر إلي في الزمن الماضي”.
وصفه الحكام بأنه كتاب “غامض، مكتوب بشكل جميل ولمحة مؤثرة عن كونك إنسانًا”، وأضافوا: لقد جعلنا هذا الكتاب نبكي حقًا.
عبور سحري للقارة الأفريقية
في مقال نشرته “الغارديان” البريطانية ذكرت الكاتبة الزيمبابوية نوڤيوليت بولاوايو المرشحة هذا العام، أن هناك أسطورة تدّعي أنه في عام 1976 تم الاقتراع على البوكر بعملة معدنية حين لم يتمكن الحكام من الاتفاق على فائز. تقول بولاوايو: “لا أظن أن رئيس لجنة هذا العام؛ المؤرخ الفني ومدير المتحف السابق نيل ماكجريجور، يحتفظ “بفكه” في جيبه الخلفي، بالرغم من أن كل كتاب في القائمة المختصرة لعام 2022 يعد منافسًا قويًّا”. سبق لبولاوايو أن ترشحت عام 2013 للبوكر بروايتها الأولى “نحتاج لأسماء جديدة”. هذه المرة تدخل المنافسة بروايتها السياسية “المجد” المستوحاة من مزرعة حيوانات أورويل، ولكنها مستوحاة أيضًا من تقليد غني لرواية القصص الأفريقية التي عبرت فيها الحيوانات عن أعمق الحقائق في مجتمعاتنا. من بين الممثلين للحيوانات روبرت موغابي في شخصية حصان عجوز مراوغ ودونالد ترامب في دور قرد يغرد. وصفها الحكام بأنها “عبور سحري للقارة الأفريقية في تجاوزاتها السياسية وشخصياتها الحمقاء”.
من بين المرشحين السابقين أيضًا، الأميركية إليزابيث ستراوت التي ترشحت في عام 2006، عن روايتها “اسمي لوسي بارتون”، وتعتبر روايتها المدرجة هذه المرة “أوه وليام” الجزء الثالث من سلسلة “انجاش” لبطلتها لوسي، فإذا ما فاتك قراءة الجزأين السابقين، لا داعي للقلق لأن كل جزء يمثل رواية قائمة بذاتها بصرف النظر عن حركة لوسي الدائبة من كتاب لكتاب. وصفها الحكام بأنها “واحدة من تلك الروايات التي تتألق بهدوء وتعثر على أعمق الألغاز في أبسط الأشياء”. قيل عنها إن لا أحد يستطيع استكناه الحياة الداخلية كما تفعل ستراوت بتفاوضها على الزيجات القديمة والحزن الجديد، ومكافحتها طوال الوقت للهروب من طفولتها ومواجهة ما فعلته بها. إنها واحدة من الشخصيات الخالدة في الأدب – محطمة، ضعيفة والأهم من ذلك كله، عادية، مثلنا جميعًا.
أما عن رواية شيهان كاروناتيلاكا “أقمار معالي الميدا السبعة”، فهي تمتلئ بالأشباح والحيل والمشاعر الإنسانية العميقة، حسب قول الحكام. تقع بعض أحداثها في سريلانكا المنكوبة بالحرب الأهلية وبقيتها في الحياة الآخرة حيث يتعامل البيروقراطيون السماويون مع الوافدين الجدد ومنهم معالي، مصور الحرب الذي مات وأمامه سبع ليالٍ أو “أقمار”. ويحتاج إلى إرشاد أصدقائه إلى ذاكرة التخزين المؤقتة للوصول إلى الصور التي التقطها.
ذكرى تطارد الضمير الأميركي
أكثر الكتب طرافة في قائمة البوكر، وترويعًا في الآن ذاته، رواية “الأشجار” للكاتب الأميركي بيرسيفال إيفريت عن اثنين من المحققين من ذوي البشرة الداكنة يتحريان عن سلسلة من جرائم القتل المروعة في بلدة موني، بولاية ميسيسيبي، ومن خلال تعاملهما مع السكان المحليين العنصريين تتفجر الأسئلة حول التاريخ والعدالة بينما لا نحصل على إجابة مباشرة. ومع زيادة عدد الجثث، يصبح لزامًا على المدينة العودة إلى ماضيها؛ يوم أن قتل إيميت تيل البالغ من العمر 14 عامًا، قبل 65 عامًا.
كان إيميت في زيارة لأقاربه في منطقة دلتا الميسيسيبي حين التقى سيدة شابة متزوجة وراح يمازحها. وبعد عدة ليال، أخبرت أهل زوجها عن الصبي الأسود الذي تجرأ على ممازحتها، فتوجهوا إلى بيت عمه ونقلوه إلى إحدى الحظائر، وضربوه واقتلعوا إحدى عينيه، قبل إطلاق النار عليه، وتخلصوا من جثته في نهر تالاهاتشي بعد ربطها بمروحة تزن 32 كيلوغرامًا ولف رقبته بالأسلاك الشائكة.
بعد ثلاثة أيام، طفت الجثة المشوهة وأعيدت إلى أهله في شيكاغو، فأصرت والدته على أن تقام مراسم الجنازة مع إبقاء النعش مفتوحًا للعامة لتظهر للعالم كيف قتل!
على نفس الوتيرة المرعبة تدور رواية الكاتبة الأيرلندية كلير كيجان “أشياء صغيرة مثل هذه” في الفترة التي تسبق عيد الميلاد في بلدة أيرلندية صغيرة. ذكرت “الغارديان” أنها رواية تتسم بالثقل والجاذبية الخطيرة، وقالت لجنة التحكيم إن كيجان كانت “دقيقة وعديمة الرحمة لأنها تشرح الإذعان الصامت لمدينة أيرلندية في الثمانينيات في معاملة الكنيسة القاسية للأمهات غير المتزوجات”.
قد يكون كتاب “أشياء صغيرة مثل هذه” لكلير كيجان أكثر الكتب إيجازًا في قائمة البوكر، ولكن لا تدع ذلك يخدعك. إنها رواية مكرسة للأمهات غير المتزوجات والأطفال المحتجزين في مغاسل المجدلية الأيرلندية، المعروفة أيضًا باسم مصحات المجدلية، وهي مؤسسات لإيواء “النساء اللاتي سقطن”، يقدر عددهن بـ 30.000. لكن الكارثة حين تم اكتشاف مدافن مطموسة لـ 155 امرأة عام 1993 في باحة الدير بإحدى المغاسل. الحدث الذي أيقظ وعي تاجر الفحم، بيل فورلونج، على نفاق الكنيسة وتواطؤ مجتمعه. وجعل كيجان تتخذ من يقظته بوصلتنا الأخلاقية في قصة تتلألأ مثل جوهرة مقطوعة بدقة، تزداد وضوحًا مع كل قراءة.
يقول مدير مؤسسة البوكر، غابي وود، إن أكثر ما يميز هذا العام، اتفاق اللجنة بأكملها على الكتب الستة المختارة، فلم يحدث جدال، ولا خلافات بين الحكام مطلقًا؛ “لقد اختاروا الكتب التي تعيد التاريخ إلى الحياة، أو كما يصفها باري ’الكتب التي تتخذ من الفكاهة استراتيجية لها’”
*ضفة ثالثة