سناء عبد العزيز: إليف شفق تروي قصة حب في قبرص المنقسمة طائفيا

0

في روايتها الجديدة “جزيرة الأشجار المفقودة”، الصادرة حديثاً عن دار بلومزبري للنشر، تطرح الكاتبة التركية أليف شفق الكثير من الأسئلة عما يعنيه أن نفقد وطناً، وما ندفعه من أثمان باهظة للتكيف مع هذا الفقد. ماذا عن أطفالنا الذين حاولنا بشق الأنفس النجاة بهم، هل نجوا بالفعل؟ أم أن عليهم، كما كان علينا، أن يواصلوا الدفع مراراً وتكراراً؟ هكذا نستكشف من خلال الرواية صدمة الأجيال التي لا يمكن تفاديها، وما يترتب عليها من بيئة خصبة للاكتئاب الذي بات عنواناً للوجود البشري، أو كما تقول شفق “نحن نخاف من السعادة. ونتعلم منذ صغرنا أنه مقابل كل كسرة من الطمأنينة، لا بد أن يتبعها فيض من المعاناة”.

النساء أعظم من يروي القصص

حققت الكاتبة مقولتها السابقة في كل أعمالها تقريباً، بدءاً من روايتها الأولى “الصوفي” الحائزة على جائزة رومي لأفضل عمل أدبي في تركيا 1998، وانتهاء بروايتها الثانية عشرة “جزيرة الأشجار المفقودة” 2021، التي اعتبرها القراء والنقاد أفضل ما كتبته على الإطلاق. وفيها تحكي من خلال علاقة حب بين شاب يوناني مسيحي وفتاة تركية مسلمة، قصة قبرص المنقسمة على نفسها بعد الاستعمار، والثمن الذي يدفعه عاشقان كهذين في ظل هذا التمزق، بل ويستمران في دفعه طوال حياتهما، “أنت لا تقع في الحب وسط حرب أهلية، حين تطوقك المذابح والكراهية من جميع الجوانب… ومع ذلك فقد كانت هناك”.

يبدأ السرد في أواخر عام 2010، حيث نلتقي آدا البالغة من العمر ستة عشر سنة في لندن، تجلس في حصة التاريخ مع رفاقها فتكلفهم المعلمة والكوت بإجراء حوار من خمس صفحات مع أحد أقاربهم المسنين خلال العطلة الدراسية، شرط أن يكون مدعماً بحقائق تاريخية.

كان الجميع قلقاً بشأن عاصفة كبيرة في الطريق إليهم، من المتوقع أن تشل مساحات شاسعة من إنجلترا واسكتلندا وأجزاء من شمال أوروبا. وعليهم أن ينجحوا في تكديس مؤونتهم استعداداً للحصار. كانت آدا تفكر بأنها لم تقابل أحداً من أقاربها من قبل. تعرف أنهم يعيشون في جزيرة في البحر الأبيض المتوسط في قبرص. إلا أن أقاربها هؤلاء والجزيرة يمثلون بالنسبة إليها، مجرد لغزين! لكن هذا لم يمنعها من الشعور بحاجتها إلى أن تعرف، ولربما تمكنت من ملء الأجزاء المفقودة من هويتها غير المكتملة.

الأساطير تخبرنا ما نسيه التاريخ

يتحرك الزمن ذهاباً وإياباً من لندن في الوقت الراهن إلى قبرص في السبعينيات، عندما كان والدا آدا؛ كوستاس وديفني يتواعدان سراً في حانة “التين السعيد” على الرغم من يقينهما التام أن عائلتيهما لن تتقبلا هذه العلاقة مطلقاً (روميو وجولييت).

“ذات مرة، في الطرف البعيد من البحر الأبيض المتوسط، كانت هناك جزيرة جميلة وزرقاء للغاية لدرجة أن العديد من المسافرين والحجاج والمحاربين والتجار الذين وقعوا في حبها، إما أنهم لم يرغبوا في مغادرتها على الإطلاق، وإما حاولوا سحبها بخيوط القنب على طول طريق العودة إلى بلدانهم. قد تكون أسطورة، لكن الأساطير وجدت كي تخبرنا ما نسيه التاريخ”.

الحانة في قبرص هي المكان الوحيد الذي لا يأبه بالاختلاف، فيها يلتقي اليونانيون والأتراك والأرمن والموارنة وجنود الأمم المتحدة. تنتصب فيها شجرة التين السامقة كشاهد على الأحداث، فهي تنمو وسط المقهى الذي يلتقي فيه العاشقان وتتفرع عبر السقف، تراقب مجيئهما وذهابهما أثناء قصة الحب الرائعة. وتصبح الشاهد فيما بعد على حجم الدمار الذي خلفته الحرب، وحالات الاختفاء، والحزن، إلى أن ينتزع كوستاس قطعة منها وينقلها إلى لندن، حيث تجلس آدا، وتستكشف جذورها الدفينة.

كتبت شفق أن العديد من قصص المفقودين المذكورة في الرواية تستند إلى حكايات حقيقية. القصة خيالية، لكنها مستوحاة من العديد من الروايات الحقيقية التي تحكي عن التاريخ المشحون والمضطرب لوطن مزقته الحرب والانقسامات الدينية، وكيف أصبحت الجزيرة موضع خلاف بين طائفتين عرقيتين بارزتين: القبارصة اليونانيون والقبارصة الأتراك، بعد أن شجعت السياسات الاستعمارية البريطانية الاستقطاب الإثني، محرضةً المجموعتين واحدة ضد الأخرى، درءاً للتعاون المشترك ضد الحكم الاستعماري، وعملاً بمبدأ “فرق تَسُدْ”.

طمس الحدود بين التاريخ والطبيعة

من خلال كوستاس الأب، عالم النبات والبيئة اليقظ تجاه الطبيعة تتدفق معالم قبرص وأشجارها الخلابة عبر الصفحات. فمنذ أن كان صبياً، والأشجار وحدها تقدم له الملاذ والعزاء. وبعد موت حبيبته يتجول صامتاً في حديقته وينزوي على أبحاثه “مثل حيوان مختبئ في نفقه من أجل الأمان والدفء”، مفضلاً رفقة الأشجار على رفقة البشر.

تربط الأجزاء الثلاثة التي تضمنتها الرواية عالمنا البشري بعالم جذور النباتات، في محاولة لطمس الحدود بين تاريخ الإنسان وتاريخ الطبيعة. لا سيما أن الدمار الذي تخلفه الحرب لا يقتصر على البشر وحدهم، فالأشجار بدورها تعاني أيما معاناة، مثلها مثل الببغاوات وحتى النمل. وهناك مشهد مؤثر يصف مئات من خفافيش الفاكهة التي لفظت أنفاسها، بعضها كان صغيراً جداً لا يزال يرضع. “بوسع النبات أن يلتقط الذبذبات، وتتشكل العديد من الزهور على هيئة كرات تلتقط الموجات الصوتية بشكل أفضل، لكن تردد بعضها مرتفع جداً على الأذن البشرية. الأشجار مكدسة بالأغاني ونحن لا نخجل من رؤيتها”.

ثمة إحساس غريزي بالذنب يساور كوستاس تجاه شغفه العميق بالنبات، كما لو أنه وسيلة المراوغة للإشاحة عن معاناة البشر. فبقدر ما يفتنه عالم الأشجار ونظامها البيئي المعقد، يتجنب معرفة الأحداث السياسية وتفاصيل الصراع الدائر على أشده في الخارج. كوستاس لا يعتقد بوجود تسلسل هرمي بين معاناة البشر وسائر الكائنات، ومن ثم فهو لا يعترف بأسبقية حقوق الإنسان على حقوق النبات والحيوان، وإن كان يدرك تماماً أنه لا يملك الجرأة للتصريح برأيه على ملأ. وبعد موت ديفني، أصبحت سلواه الوحيدة أن يحكي لآدا عن أزهار الشوكولاتة المتفتحة ليلاً، والحصى البطيء النمو، والأحجار المزهرة التي تشبه الحصى بشكل غريب، ونبات الميموزا بوديكا، وهو نبات خجول جداً لدرجة أنه ينكمش لدى أدنى لمسة، ويرقب انبهارها بفرحة عارمة.

تنضج آدا مع الخبرة التدريجية وتتذكر القصة التي كانت تحكيها أمها قبل النوم عن الجنود في الحرب العالمية الثانية، الذين تملكهم الخوف على حياتهم عندما رأوا سحابة من الغاز الأصفر السام تطفو باتجاههم، إلى أن أدركوا أنها ليست إلا أسراباً من آلاف الفراشات المهاجرة.

تبدأ “جزيرة الأشجار المفقودة” بصرخة من آدا (الجيل القادم)، وتنتهي بأحلام شجرة التين التي منحتها شفق صوتاً منفرداً لتروي عن الحب والعنف والحرب والانتماء والهوية والصدمة والطبيعة، في قبرص المنقسمة ما بعد الاستعمار.

*اندبندنت