سمير رمان: في ذكرى ميلاده الـ 120.. فرانز كافكا رائد الكابوسية

0

فرانز كافكا من أبرز الأدباء الألمان في مجالي القصة القصيرة والرواية، هو التشيكي رائد الكتابة الكابوسية، التي توصف بالواقعية العجائبية، حيث يلعب دور البطولة في قصصه أبطال غريبو الأطوار يتعرضون إلى مواقف سوريالية. يرجح أن مردّ ذلك هي المواضيع النفسية التي تناولتها أعماله، مثل الاغتراب الاجتماعي، والشعور بالذنب، والعبثية، عمومًا، حتى شاع في الوسط الأدبي مصطلح الكافكاوية، في إشارة إلى الكتابة الحداثية المتمثلة بالسوداوية والعبثية. وأكثر أعمال كافكا شهرة هي روايات: “المسخ”، و”المحاكمة”، و”القلعة”.

بالنسبة للمراقب عن كثب، يظلّ عالم كافكا عالمًا واهمًا، مُبتدعًا. لكننا كلما اقتربنا لندقق في شخصيةٍ، أو مسرحيةٍ، كلما بدأ يتضح أنّها تتحول إلى ما يشبه وصفًا وثائقيًا. لم يكن كافكا يومًا يحتاج إلى اختلاق القصص الحقيقية، فهذه نكتة متغطرسة: كافكا في الأساس، ونظرًا إلى طبيعته نفسها، هو حكاية حقيقية في حدّ ذاته.
لم تتأت براعة كافكا وحذقه العظيمان، نتيجةَ إبداعه مؤلفاتٍ أدبيةٍ، بل لأنّه أبدع توصيفًا فنيًا للعالم الكليّ، العالم الذي يخضع في وقتٍ واحدٍ إلى قوانين إنجيل العهد القديم، وللميكانيكا الكلاسيكية، ولقوانين التطور الطبيعي التي صاغها داروين، وأيضًا إلى قوانين الكوارث المقدّرة، التي نتلمّسها دائمًا حتى في أروع المناظر الطبيعية. يتموّج المنظر الطبيعي، ويتداعى المنظر الداخلي، وتجتذب تروس الكون الإنسان تدريجيًّا إلى داخلها: الإصبع أولًا، ثمّ اليد، ومن ثمّ يضيع الإنسان كلّه بين تلك التروس. إنسان كافكا، إنسانٌ مركبٌ، عمومًا، من أماكن هشّة غير محصنة، وهو عرضةٌ لمئات الصدمات المحتملة التي تتربص به في حياته. على المرء عندما يقوم بتوصيف وتقييم كلّ هذا أن يرتِّب لقاءً بين الإنسان والعالم، وأيّ لقاء! إنّه لقاء آلة شمولية صلدة مع عاملٍ من لحمٍ ودمٍ وأعصاب. وعليه، من ثمّ، متابعة التشوهات والإصابات التي ستتعرض لها مختلف أجزاء الجسد والروح، ومراقبة التراتبية التي ستحصل وفقها.

كافكا كان يكسب لقمة عيشه من العمل نهارًا عميلًا في شركة تأمين، ولهذا فقد كان عليه أن يختلس من نومه بعض الوقت ليكتب: كان ذلك يحدث ليلة بعد ليلة، ويومًا بعد يوم، وعامًا بعد عام. يقول العُرف الأدبي إنّ الظروف الشخصية هي التي تحفّز في روح الكاتب مشاعر التعاطف وفقًا لنمطٍ رومانسي محدّد: فعادةً ما يكون المؤلف الفقير مزدوج الشخصية، يكسب عيشه عبر عملٍ غير فنيٍّ نهارًا، وفي الليل تحلّ عليه آلهة الإبداع فيبدع مؤلفاتٍ خالدة.
تكمن مشكلة كافكا في عدم تناغم طبيعته البشرية وعبقريته الفذّة مع القالب الرومانسي. أمّا تصور جوهره منشطرًا بين الليل والنهار، فإنّه مجرد وهم. للاقتناع بذلك، من الممكن مقارنة قصصه ورواياته مع رسائله، والأهمّ من ذلك، مقارنتها بنصوصه الرسمية المتعلقة بالعمل الذي يمارسه، والتي نشرت وأصبحت متاحةً للجميع فقط قبل فترة ليست بعيدة. بدرجةٍ عالية من الثقة، يمكن القول إنّ أدب كافكا الذي أنجز جلّه ليلًا يشبه إلى حدٍّ بعيد أعماله غير الأدبية التي يؤديها نهارًا. كان كافكا موظف تأمين جيد، كانت حياته سلسلة رحلات تتعلق بـ”قضايا تأمينية” تضمنت سلسلة لا نهاية لها من مشاهد مرعبة: أيادٍ مبتورة، ورؤوس مهشّمة، مناجم منهارة، وأجساد سحقتها تحت حمولة شاحنة سقطت من علٍ. عند عودته إلى المكتب، كان يحوِّل كلّ ما رآه إلى أطنان وكيلومتراتٍ من المذكرات والبروتوكولات، التي توثِّق أسباب وطبيعة ونتائج الحوادث المؤلمة تلك. بعد ذلك، تتخذ هذه المذكرات طريقًا بيروقراطيًا بطيئًا مضنيًا لتتحول لاحقًا إلى بروتوكولاتٍ ولوائح وقوانين.
تظهر المسودات والرسوم أنّ كافكا كان يجرّد كل كلمة تضمنتها نصوصه من كلّ ما هو تعبيري، فلا تمييع، ولا تلاوين، في نصوصه، على الإطلاق. جُمله جافّة، شفافة وعديمة اللون تمامًا. يمكن لأيٍّ من المشككين في أنّ هذا المجهود جاء هنا عن سابق إصرارٍ وترصّد أن يقرأ رسائله على أنّها “أدب” حقًا، فهي مجازية من حيث التعبير، واضحة بشكلٍ صارخ من حيث الشكل، تنبض بالحياة، وذات حبكة آسرة، مفعمة بالعاطفة. إنّها قصصٌ رواها شخصٌ حيٌّ ملموس، قصص كتبها بشرط، ألا وهو أن يظلّ واحدًا منهم. أمّا مرامي نصوصه فترمي إلى هدفٍ مختلف تمامًا.

عند إمعان النظر في طريقة تعامل كافكا مع العالم، يمكننا القول إنّه لم يكن مؤلِّفًا بقدر ما كان مبدعًا مطوّرًا، يبتكر سيناريوهات تُولِّد كوارث بكلّ عواقبها وتفاصيلها. في أكوان كافكا، نجد الشخصية الرئيسية عبارة عن شخص عادي يتمتع على الدوام بخاصيّة واحدة: محكومٌ عليه بالفناء. بطل كافكا الخارق شخصٌ لا يبلغ هدفه أبدًا، ولا يحصل البتّة على إجابةٍ عمّا يشغل فكره، وهو الشخص الذي يفشل، ولا ينجو أبدًا.
في القدر المرسوم لهذه الكارثة، وفي صلب هذه السيناريوهات، نجد إغراء عظيمًا لا يخمد بمرور الزمن، يجعل المرء يسعى إلى دخول فضاء كافكا، تمامًا كما يرغب فتى في دخول عالم ألعاب الكمبيوتر، أو دخول عوالم مارفيل وديزني، فإن لم يكن سعيًا للفوز فأقلّه بهدف خوض التجربة، أو بهدف فهم المنطق الذي يحكمها، وأيضًا لكي يرى العالم من خلال عيون شخصيات عالم كافكا، ليس فقط الرئيسة منها، وهم المحكوم عليهم بالفشل (مثل هذه التجربة يمتلكها كلّ واحدٍ منّا)، ولكن أيضًا من خلال أولئك الذين يتكلمون ويتصرفون نيابةً عن الآلة نفسها التي تتسبّب في المصيبة، ويجسدون مصفوفاتٍ خوارزمية تجعل تلك الآلة كيانًا لا يُقهر وغير قابل للتدمير.
في عالم التكنولوجيا، نجد اليوم أن ألعاب كمبيوتر هامة استند السيناريو فيها إلى نصوص شهيرة كتبها كافكا. نشير هنا إلى إحداها:

المحاكمة/ The Trial.. لعبة استراتيجية
ملخص اللعبة:
جوزيف. ك/ Josef. K: موظف في مصرف، اتهم بشيء لا يعرف هو نفسه كنهه، كما أنّه لا يعرف التهم الموجهة إليه. هذا الأمر ينعكس على حياته اليومية، فقد كانت كلّ المؤشرات تظهر أنّ أيّ شخصٍ معرّض لأن يكون موجودًا في العالم نفسه الذي يعيش فيه جوزيف. ك. تجري المحاكمة وفق قواعدها الخاصّة. خلال عامٍ، وفي محاولةٍ منه لفهم جوهر التهم الموجهة إليه، يبني جوزيف. ك علاقات مع أناسٍ متنوعين، بدءًا من المحامي، وانتهاءٍ بحجّاب المحاكم. شيئًا فشيئًا، يصبح جوزيف مشاركًا في العملية، ويتمتّع بخيرةٍ واسعة، ولكنّ هذا لا يقربه البتّة من حلّ اللغز. يأتي إلى جوزيف اثنان من المكلفين بتنفيذ الإعدام، فيقتلانه بالسكين في مقلع حجارة مهجور. باعتبار الإعدام حكمًا أقرّته المحكمة، يتقبل جوزيف الموت من دون إبداء أيّ مقاومة، ومن دون أن يعرف مضمون هذه المحاكمة.
تدور الأحداث في مدينة براغ في بدايات القرن التاسع عشر، وتتواصل على مدى عامٍ كامل. مكان الحدث داخل مجمع أبنية سكنية. كلّ واحدٍ من اللاعبين مرتبطٌ بمكانٍ محدّد يلتقي فيه بجوزيف. ك.
طريقة اللعب:
لعبة تفاعلية متعددة اللاعبين. تنتج اللعبة تساؤلاتٍ حول بناء ومعنى المحاكمة. يجسّد جوزيف. ك دور الشخص الذي يطرح الأسئلة، ولكنّه لا يشارك في اللعبة نفسها. اللاعبون هم أولئك الذين يجيبون عن الأسئلة. جميعهم مستقلّون عن السائل (جوزيف)، ولا علاقة لهم بالمؤامرة العامة، ولا يرتبطون مع بعضهم بعضًا بأي رابط: كلّ لاعب يلعب منفردًا. ليست هنالك مستويات في اللعبة، ولكنّها تسير وفق مؤقتٍ مبرمج.
يقول مطورو اللعبة إنّ المحرك الوحيد في حبكة “المحاكمة” هو حاجة جوزيف. ك إلى معرفة شيءٍ ما محدّد عن وضعه. هذه الحاجة تتغذّى على شعوره ببراءته، وأنّ الحقّ إلى جانبه. غير أنّ هذه اللعبة لا تأخذ في عين الاعتبار البراءة، ولا تعترف بالحقّ. مع تقدّم اللعبة، يبقى جوهر المحاكمة غامضًا، ليصبح واضحًا تمامًا أنّها محاكمة شاملة وحتمية. حاملًا أسئلته، يتنقل جوزيف باستمرار من اجتماعٍ إلى آخر، ومن فضاءٍ إلى غيره. في الواقع الفعلي، لا يتحرك جوزيف إلى أيّ مكان، ولذلك فهو ليس بلاعبٍ. هدف كلّ لاعبٍ الإجابة عن جميع أسئلة جوزيف، ولكنّه لا يعطيه أي معلوماتٍ عن العملية. كلّما كانت الإجابة أقلّ إفادةٍ، كلما حصل اللاعب على نقاطٍ أكثر. بانتهاء الزمن المحدد للعبة، يحظى اللاعبان اللذان جمعا أكبر عددٍ من النقاط بشرف قتل جوزيف. ك!

(ضفة ثالثة)