سمير درويش: هل شِعر محمود درويش ليس شعراً؟

0

في حوار أجرته مجلة “ميريت” الثقافية، التي تصدر عن “دار ميريت” للنشر في القاهرة، قال الشاعر والأكاديمي المغربي د. صلاح بوسريف إن “نيرودا ومحمود درويش ومظفر النواب وأحمد مطر شعرهم انتهى، ولم يعد يُقْرأ إلا كوثيقة تاريخية، وهو في جوهره ليس شعراً!”، وقد أثار هذا الرأي كثيرين من الشعراء والنقاد، المغاربة وغيرهم، الذين لم يتوقفوا عند تفنيد هذا الرأي المستند إلى التغيّر الذي حدث في البناء الشعري العربي، طوال الخمسين عاماً الماضية، بل راحوا يهاجمون الرجل نفسه ويستخرجون من شعره ما رأوه نواقص لا تؤهله، من وجهة نظرهم، للتحدث عن شعراء كبار مثل درويش ومطر ومظفر النواب، انتشرت قصائدهم على نطاق واسع في الوطن العربي، ويرددها الجمهور بلا انقطاع.

صلاح بوسريف ليس أول مَن قال ذلك ولن يكون الأخير، فقد سألت الشاعر الكبير الراحل حلمي سالم مرة عن رأيه في شعر محمود درويش، فقال إنه “كان” يحبه. وفي أيار/ مايو الماضي، كتب أستاذ جامعي مصري اسمه حسن مغازي، يدرِّس في جامعة جنوب الوادي، إن أمل دنقل سرق قصائده الشهيرة! ورغم غرابة الرأي فإن دنقل لم يسلم من نقد الشعراء والنقاد “الحداثيين” الذي جاؤوا بعده، باعتبار أن شعره زاعق يخلو من الجماليات، ويصلح أكثر ليكون شعارات في تظاهرات، وأن هذا النوع من الشعر مرهون بوقته، ويموت سريعاً حين تتبدل الظروف… وقد ناله هجوم كبير من محبي أمل دنقل ومحبي الشعر عموماً.

وظيفة الشعر

هذه الآراء كلها تدور في ما يمكن أن نسميه “وظيفة الشعر”، أي الإجابة عن سؤال مركزي: هل للشعر دور في حياتنا؟ والحقيقة أن مركزية السؤال عندنا تنبع من كون قضايانا العربية لا تزال تدور في مرحلة “بناء” الدولة، فمعظم الدول العربية تقوم بنيتها السياسية والاجتماعية على العشائرية مهما بدا من تطور واستخدام للتكنولوجيا ونقل العمارة والطرق من الغرب في بعض الدول، أو تقليد نموذج الديمقراطية الغربي بوضع دساتير وإنشاء أحزاب وبرلمانات، إلخ. فهذه ليست سوى أشكال مفرغة من مضمونها، لا تنجح، إلا قليلاً، في حجب واقع الحكم العشائري الأحادي الذي يعتمد على الرأي الواحد، وعلى المجالس العرفية بديلاً عن القانون.

لذلك، فإن كثيرين من المثقفين والنقاد العرب يرون أن للشعر دوراً في الحياة العامة، وأن الانكفاء على الذات ومخاصمة القضايا الكبرى –كما ينادي ويفعل الحداثيون- هو خيانة لروح الانتماء، وللمشاركة العضوية في بناء المجتمعات، وهذه النقطة بالتحديد هي التي تعلي من قيمة محمود درويش ومظفر النواب وأمل دنقل، باعتبار أن تجاربهم الشعرية انشغلت بالهم العربي، وبالقضايا الكبرى مثل الحرب والهزيمة والديكتاتورية، وقضية فلسطين بالطبع.

تزداد قيمة هذه الجبهة بالتأكيد مع “التفكك” الذي أصاب بعض الدول العربية بداية من عام 2011، والأمثلة الصارخة على ذلك هي سوريا واليمن وليبيا والعراق، حيث تشظت مركزية الدول بفعل عوامل داخلية وخارجية، أهمها مسألة حكم الفرد الأوحد المسيطر، وإلغاء المؤسسات أو إضعافها إلى الحد الأدنى، بالرغم من أنها الضمانة الوحيدة للتطور في جميع الملفات، وهو ما خلق “شتاتاً” جديداً تمثل في هجرة كثيرين من مواطني تلك الدول إلى أوروبا وأمريكا، في مشهد يعلو فوق مشهد الشتات الفلسطيني الذي حدث في منتصف القرن العشرين.

أزمة الشاعر العربي الجديد

الحقيقة أن أزمة الشاعر العربي هنا مزدوجة، وعميقة. فمن ناحية، هو مغروس في قلب أزمة الهوية العربية الناتجة عن عدم نضج المحيط الذي يحيا داخله، والذي يعاني من أزمات عدة على رأسها تهافت النظام التعليمي وانهيار الخدمات والتسلط السياسي والفساد الاقتصادي وتوغل الجماعات الدينية بأفكارها المتطرفة التي تخاصم التطور والديمقراطية وتدعو للعودة إلى زمن الرسالة في الصحراء العربية قبل 1400 عام، ومن ناحية أخرى تضعه وسائط الاتصال في قلب المشهد الثقافي والشعري العالمي، حيث تتطور القصيدة بشكل كبير، ولم يعد ثمة مجال للخطابة والمدح والذم وادّعاء ما ليس موجوداً أو واقعيّاً.

الحقيقة التي يلمسها الشاعر اليوم أن قصائد محمود درويش وأمل دنقل وأحمد مطر ومظفر النواب، وأحمد فؤاد نجم في العامية المصرية، وغيرهم من شعراء الرفض، لم تحسِّن مستوى الواقع العربي، ولم تجعله أفضل، بالضبط كما لم تحسنه ادعاءات المتنبي قديماً “الخيلُ وَالليلُ والبيداءُ تعرفُني/ والسيفُ والرمحُ والقرطاسُ والقلمُ/ صحِبْتُ في الفلواتِ الوحشَ منفرداً/ حتى تعجبَ مني القُورُ والأكمُ”… بل لعل هذه القصائد ساهمت في ما لا نزال قابعين تحته، على الأقل من جهة أننا لا نعرف أنفسنا جيداً. فإنْ قرأت قصيدة من الشعر القديم عند أبي العلاء أو أبي نواس مثلاً، لا يمكنك أن تستشفَّ طبيعة الحياة، هل كانت منفتحة كما تشي قصائد قيس بن الملوح، أم ماجنة كما في قصائد أبي نواس، أم غير هذه وتلك؟

المفاجئ أن شاعراً بحجم محمود درويش كان واعياً لمسألة “الادعاء” في الشعر الخطابي الذي يأخذ قيمته من انتسابه لقضية ما، ومقولته الشهيرة ماثلة في الأذهان “أنقذونا من هذا الحب القاسي”، وهو ذاته قرر أنه “من الخطأ الاستمرار في تدليل الشعر الفلسطيني” استناداً إلى القضية التي يعبّر عنها ويعكسها فقط وليس إلى كونه شعراً حقيقيّاً. هذا الانتباه المبكر لفخ إعلاء الموضوع على الشكل، أي إعلاء القضية على الشعر نفسه وجمالياته، هو الذي يميز محمود درويش عن أحمد مطر ومظفر النواب، كما يميز شعر أمل دنقل الإنساني وسعيه لإلباس قصائده السياسية أقنعة تراثية.

ميزتان في شعر محمود درويش

خاصيتان ميزتا شعر محمود درويش عن غيره من شعراء الرفض:

الأولى أن قصائده “الزاعقة” و”الشفاهية” لم تخل من صور جمالية مدهشة، مثل قوله في قصيدة “أحمد الزعتر”: “نازلاً من نحلة الجرح القديم إلى تفاصيل البلاد/ وكانت السنةُ انفصال البحر عن مدن الرماد/ وكنتُ وحدي.. ثم وحدي/ آه يا وحدي وأحمدْ/ كان اغترابَ البحر بين رصاصتين/ مُخيَّما ينمو وينجب زعتراً ومقاتلين/ وساعداً يشتدُّ في النيسان/ ذاكرةً تجيء من القطارات التي تمضي/ وأرصفةً بلا مستقبلين وياسمين”.

والثانية أنه تخلى في دواوينه الأخيرة جميعها عن “شعر القضية” المباشر، لمصلحة الشعر كونه كياناً مستقلّاً، يُحدث التغيير المنشود غير المباشر كلما كان صادقاً وإنسانيّاً وذاتيّاً، لا زاعقاً يذهب للكليشيه على حساب الجماليات.

ومن هاتين النقطتين، اختلفتُ مع الشاعر حلمي سالم حين قال لي إنه “كان” يحب درويش، ومع صلاح بوسريف الآن لأنه وضع درويش في خانة لا تخصه، أو ثبَّتَهُ عن نقطة معيّنة ورفض أن يذهب معه حيث ذهب بعدها، في نقطة “سجل أنا عربي” وقصيدة “بيروت” و”مديح الظل العالي”، التي كتبها بعد الخروج الفلسطيني من بيروت إلى الشتات، بعد اجتياح إسرائيل لبيروت عام 1982، والتي لا تخلو من رهافة وجمال مع ذلك: “نامي قليلاً يا ابنتي، نامي قليلا/ الطائراتُ تعضُّني. وتعضُّ ما في القلب من عَسَلٍ/ فنامي في طريق النحلِ نامي/ قبل أن أصحو قتيلاً/ الطائراتُ تطير من غُرَفٍ مجاورةٍ إلى الحمَّام/ فاضطجعي على درجات هذا السُّلَّم الحجريِّ/ وانتبهي إذا اقتربتْ شظاياها كثيراً منكِ/ وارتجفي قليلاً”.

الشعر خارج القضية والواقع معاً!

ربما كان الشطط في تصريح صلاح بوسريف، وفي رأي حلمي سالم وآخرين، أن ما نسميه “شعر الحداثة”، والذي ساد في النصف الثاني من سبعينيات وكل ثمانينيات القرن العشرين، أخذ الشعر خارج الشفاهية والقضايا الكبرى، وخارج الذاتية والواقع في آن، وظهر سباق غريب لكتابة قصيدة غير مفهومة، تستند إلى استدعاءات ثقافية وتراثية لا يفهمها الغالبية الكاسحة من الناس، حتى الشعراء أنفسهم، فأصبحت الصور الغريبة والغامضة هدفاً في ذاتها!

“فكرة ‘انسلاخ’ الشعر العربي عن واقعه بالكامل على غرار الشعر الغربي في أوروبا وأمريكا تحتاج إلى مراجعة، كون الشاعر العربي يعاني ما يعانيه المواطن العربي من قهر وكبت في مجتمعات قبلية أو شبه قبلية”

صحيح أن قليلين فعلوا ذلك من وازع ثقافة عميقة، لكن الأغلبية اندفعت تقلّد دون روية ودون فهم، مما جعل المشهد الشعري في تلك السنوات مربكاً بالفعل، حتى جاءت موجة شعرية جديدة اتكأت على الذاتي والآني والمشهدي، وكتبت قصائد مغايرة للشعر الشفاهي الزاعق، لكنه مفهوم في الوقت ذاته، فأخرجت الشعر من مأزقه.

لكن اللافت أن تيار الحداثة لم يذهب كله. فحتى اللحظة، هناك شعراء يصبون جلَّ اهتمامهم على شكل القصيدة كونها لوحة، مثل تجربة رفعت سلام وآخرين انتهجوا نهجه، ومنهم صلاح بوسريف. هؤلاء يرون أن محمود درويش زاعق وشفاهي رغم ما في شعره من جماليات، ويضعونه مع أحمد مطر ومظفر النواب في سلة الرفض- المقاومة نفسها، وهو رأي يحتاج إلى مراجعة بالتأكيد لاعتبارات خصوصية تجربته التي أشرت إلى بعضها، ووعيه المبكر برسالة الشعر أيضاً.

كما أن فكرة “انسلاخ” الشعر العربي عن واقعه بالكامل على غرار الشعر الغربي في أوروبا وأمريكا تحتاج إلى مراجعة، كون الشاعر العربي يعاني ما يعانيه المواطن العربي من قهر وكبت في مجتمعات قبلية أو شبه قبلية، وكون أهمية “الشكل” في بناء القصيدة الجديدة لا يتعارض مطلقاً مع وقوفه على الأرض، وتلمسه لما يدور حوله من قضايا أظنها وجودية، ترتبط بالفكرة البدائية عن الحياة والفن في واقعنا المأزوم، والشعر في القلب منه.

المفاجئ أن شاعراً بحجم محمود درويش كان واعياً لمسألة “الادعاء” في الشعر الخطابي الذي يأخذ قيمته من انتسابه لقضية ما، ومقولته الشهيرة ماثلة في الأذهان “أنقذونا من هذا الحب القاسي”، وهو ذاته قرر أنه “من الخطأ الاستمرار في تدليل الشعر الفلسطيني” استناداً إلى القضية التي يعبّر عنها ويعكسها فقط وليس إلى كونه شعراً حقيقيّاً. هذا الانتباه المبكر لفخ إعلاء الموضوع على الشكل، أي إعلاء القضية على الشعر نفسه وجمالياته، هو الذي يميز محمود درويش عن أحمد مطر ومظفر النواب، كما يميز شعر أمل دنقل الإنساني وسعيه لإلباس قصائده السياسية أقنعة تراثية.

ميزتان في شعر محمود درويش

خاصيتان ميزتا شعر محمود درويش عن غيره من شعراء الرفض:

الأولى أن قصائده “الزاعقة” و”الشفاهية” لم تخل من صور جمالية مدهشة، مثل قوله في قصيدة “أحمد الزعتر”: “نازلاً من نحلة الجرح القديم إلى تفاصيل البلاد/ وكانت السنةُ انفصال البحر عن مدن الرماد/ وكنتُ وحدي.. ثم وحدي/ آه يا وحدي وأحمدْ/ كان اغترابَ البحر بين رصاصتين/ مُخيَّما ينمو وينجب زعتراً ومقاتلين/ وساعداً يشتدُّ في النيسان/ ذاكرةً تجيء من القطارات التي تمضي/ وأرصفةً بلا مستقبلين وياسمين”.

والثانية أنه تخلى في دواوينه الأخيرة جميعها عن “شعر القضية” المباشر، لمصلحة الشعر كونه كياناً مستقلّاً، يُحدث التغيير المنشود غير المباشر كلما كان صادقاً وإنسانيّاً وذاتيّاً، لا زاعقاً يذهب للكليشيه على حساب الجماليات.

(رصيف 22)