سمر يزبك: بروست وخرافة العزلة

0

ما إن حلّت الذكرى المئوية لرحيل مارسيل بروست حتى وجدتني أغوص في تفاصيل حياته من جديد، فقد حصل منذ سنوات، وخلال مرحلة ابتعادي عن نشاطي السياسي والإعلامي، أن قرّرت التفرّغ لقراءة كلاسيكيات الأدب والفلسفة، وكانت رواية مارسيل بروست (البحث عن الزمن المفقود) واحدة منها. لقد سمّيتُ عودتي إليه بكهف أفلاطون الذي حاولت السكن فيه، وتأمّله خوفًا من القطيعة المعرفية التي لاح لي أن الثورة الرقمية ستحسمُها مع معارفنا ومداركنا الإنسانية، بطريقة ما كنت أفكّر أنها سوف تجبُّ ما قبلها، وسنشهد ولادة إنسانيّةٍ جديدة! ولذلك كانت العودة إلى بدايات التفكيرالأولي في حيواتنا البشرية مُهمّةً لي. مارسيل بروست وكهف أفلاطون، شكّلا بالنسبة لي، حلمًا راودني عن إمكانية توسيع المساحات المحتلّة من فيض المعلومات التي تغرق فيها رؤوسنا وخيالاتنا. حلم صغير باستحضار خرافة العزلة.

إن إعادة قراءة بروست ارتبطت بمحاولة فهم حياته نفسها، التي جعلته يواظب لسنواتٍ على الاعتكاف وكتابةِ رائعته المطوّلة، بدت لي تلك واحدة من أهمّ آليات فهم عمل السردي التقني، إذ كيف يمكن كتابة عبارة واحدة من 931 كلمة بلا توقّف؟ كيف يمكن تغيير نظام النهار والليل؟ كان بروست يكتب ليلًا وينام نهارًا، كيف يمكن الاستغناء عن العالم بالعيش في إعادة كتابته وخلقه؟

مارسيل بروست الرجل الذي احتفي وبشدّة بمرور مائة سنة على وفاته في فرنسا، لم يكن رجلًا عاديًا، وهو نفسه كان كاتبًا ابتعد عن السياسة ونبذ المجتمع الأرستقراطي، وكان تورّطه الوحيد في العمل السياسي كما يصف النقّاد بقضية (دريفوس)، التي كتب إثرها (إميل زولا) مقاله الشهير (إني أتّهم)، وصار هذا المقال فيما بعد مرجِعًا عن ضرورة التزام الكاتب بقضايا مجتمعه السياسية والاجتماعية.

هل كان مرضه بذات الرئة وملازمته الفراش ما دفعه للقيام بذلك؟ أو كان الترف والميراث العائلي الذي لم يضطرّه للعمل والكدح من أجل لقمة العيش؟ أو ربما كان السبب في هذا كهف أفلاطون نفسه وخيالاته؟ مِن المؤكد أن بروست لو عاش في زمننا هذا لمَا استطاع الانقطاع عما يحيط به، من الممكن للكاتب- وأنا أفعل ذلك- تحديدَ علاقاته الاجتماعية، العيش في إعادة تأويل العالم عبر القراءة والكتابة؛ فهمه، وتفكيك عنفه، وشرّه، تأطير شكلانيّته الفادحة. الكاتب مربوط رغمًا عنه بآليات عمل النظام الاقتصادي الجديد، وهو نفسه قد يتحوّل إلى أداةٍ لترويج سلعةٍ، تلك التي لم يكن بروست مضطرًّا لترويجها على هذه الطريقة! ربما كتب (البحث عن الزمن المفقود) عندما كنّا كبشر ما زلنا نملك هامشًا من الزمن يُتاحُ لنا امتلاكه، لم يكن بروست مضطرًّا عند صدور كل كتابٍ للسفر معه والترويج له، أو لقبول الحوارات واللقاءات التي تلي إصدار أي كتابٍ، وهي لقاءات ترويجية لا يستطيع الفكاك منها حسب عقود مكتوبة وموثّقة قانونيًا، أتحدّث هنا عن أوروبا، في العالم العربي هذا أمر مختلف، وهو شأن ذو شجون فيما يتعلّق بالكتاب والكتابة وأحوالنا كقرّاء وكتّاب.

حديثي هنا عن شرعنة تحويل الكتاب إلى سلعة يستخدمها أصحاب دور النشر، فعندما يكون الترويج للكتاب جزءًا من إبرام العقد مع الوكيل الأدبي أو مع الكاتب نفسه، يصير الأمر مختلفًا، ماذا لو رفض الكاتب؟ سوف يستطيع أن يرفض لكنه سيفقد فرص النشر وفي أحسن الأحوال، سيضيع كتابه في الزحمة. الكاتب الذي لا يكون نشِطًا على وسائل التواصل الاجتماعي لن يسمع به كثيرون، ربما صورة متتالية لغلاف كتابه تتكرّر على الانستغرام ستكون كفيلةً بجعل الكتاب مرئيًا، الكتّاب اللامرئيون هم غالبًا الكتّاب الذين لا يحدّقون في صور كتابهم وهي تتوالى كتسونامي. أفكّر في أن الخيار الراديكالي قد يكون أحيانًا مفيدًا لمواجهة الرداءة الحاصلة؛ في أن يرمي الكاتب كتبه في الزمن كما يفعل لاعب النرد، يكتب ويمضي! فكما لمارسيل بروست انقطاعاته عن الحياة، وغرقه في الكتابة التي تعني بمعنىً ما إعادة إنتاج الحياة، حيث قرأنا بعد عشرات السنوات رائعته تلك؛ سواء أعجبت النقّاد أم لا؟! يمكن لنا التفكير بالانقطاع عن الإشهار والعرض المستمرين، يمكن لنا التفكير في فعل الانقطاع كفعل استمرار!

أميل إلى خيارات بروست الحياتية، ولا أميل إلى أسلوبه النثري، ولكني في الوقت نفسه، والآن عندما تقوم فرنسا بتكريمٍ غير مسبوق له في مئويته (توفّي مارسيل بروست يوم 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 1922)، عبر إقامة معرض في المكتبة الوطنية الفرنسية تحت عنوان (بناء النتاج)، في إشارة لروايته (البحث عن الزمن المفقود)، أجدهم محقّين في ذلك! فهو قيمة وطنية بالنسبة لهم؛ يعيدون نشر المقالات والأفلام وكتب النقّاد، لفهم آلية كتابة هذه الرواية التي رفضت دار نشر غاليمار الفرنسية طباعتها حينها؛ وهي الدار الأكثر شهرة في فرنسا وأكثرها عراقة! ربما مثال بروست هو فرصةُ الكاتبِ في أن يكون لاعبَ نردٍ ما تزال ممكنةً.

قرأت للمرّة الأولى (البحث عن الزمن المفقود) منذ زمن بعيد! لم أعدْ أذكره تمامًا، كانت بعد جهدٍ كبير وزمنٍ متقطّع، كانت تلك الطبعة من ترجمة الياس بديوي، وصدرت عن وزارة الثقافة السورية بمجلّداتها الثلاثة الأولى، وأعدتُ قراءتها بلا توقّفٍ وبحماسٍ في بلد بروست نفسه، وأعيد قراءتها الآن، وما تزال حتى الآن سرًّا يغوص في غمار النفس الإنسانية ويستكشف جوانبها الغامضة، لذلك لا عجب في أن يكون كهف أفلاطون الذي بحثتُ عنه يلوح بين حين وآخر في تفاصيل سردها. ولا عجب في أن يكون استحضار خرافة العزلة شكلًا من أشكال مساءلة خيالات كهف أفلاطون الأولى! كان بروست واحدًا من ساكني هذا الكهف وأحد خيالاته التي من الصعب أن تندثر، أمّا بالنسبة لي فقد كانت درسًا مهمًّا في التفكير؛ إننا وكلما تقدّمنا في العمر، وملكنا أكثر فأكثر تجربة الكتابة، علينا أن نتعلّم من جديد سحر كتابة الأدب الذي يعني أن نكون نحن الكتّابَ مزيجًا عجائبيًا من طينة سيزيف وبرميثيوس؛ أن نجمع الجحيم والنعيم، ربما هذا ما يعنيه أنه يمكن تفسير العالم عبر طرح الأسئلة لا امتلاك الأجوبة، ثم إعادة خلق عالمٍ موازٍ ونحن نبحث عن المفقود من الحياة…!  

*ضفة ثالثة