بدون الخوض في الكثير من التفاصيل، يمكن أن نصنف البشر إلى ثلاثة أنواع، النوع الأول، يقف باتزان في منطقة وسطى بين الطموح وتحقيق السعادة الذاتية، والنوع الثاني يجعل وجوده منذورا من أجل النجاح في العمل، وقد يصل به خياره هذا، إلى أقصى نقطة نجاح ممكنة، أما النوع الأخير فهو محب للحياة، ويجعلها مقدمة على كل شيء آخر، ومع هذا الاختيار تأتي الخسارات بدون شك. لكن، هل ينطبق الأمر أيضا على رجال الدين! ليس أي رجال دين، بل الأعلى سلطة منهم.. البابا. نعم البابا، هذا المبدأ ينطبق على الجميع، هكذا يقول لنا فيلم «البابوان» إنها فكرة عبقرية، حركها نص (البابا) الذي كتبه أنتوني مكارتن، ثم حولته يد فرناندو ميريليس ببراعة إلى فيلم سينمائي.
ليس من المتوقع، إطلاقا، أن يقتحم فيلم جماهيري من إنتاج منصة نيتفليكس الترفيهية، الكنيسة الكاثوليكية بحرية تامة، أو أن يقدم رؤيته الخاصة المتعلقة بإحدى المشكلات المثارة حولها، كأن يشاكس أسباب استقالة البابا بنديكتوس السادس عشر، وهو الحدث الذي هز العالم في فبراير/شباط 2013، كحالة لم تحصل منذ أكثر من 600 سنة، أو أن يغوص في إحدى الشائعات التي تطفو بين الفينة والأخرى، ومنها الفضائح الجنسية أو المالية للكنيسة، لكن بدل هذه التوقعات يسير بنا فيلم «البابوان» (2019) لفيرناندو ميريليس في اتجاه إنساني، وهو يسرد قصة انتقال البابوية بين البابا بينيديكت والبابا جورجي بيرغوغليو (البابا فرنسيس).
يعود بنا «البابوان» إلى سنة 2005 عندما توفي البابا يوحنا بولس الثاني، فيتخذ الفاتيكان إجراءات تعيين خليفته، وبشكل غير متوقع يصبح الكاردينال الألماني بينيديكت البابا الجديد (بينيديكت السادس عشر) في دور بديع (لأنتوني هوبكنز)، بفارق أصوات طفيف عن منافسه جورجي بيرغوغليو في دور لـ(جوناثان برايس)، وهو كاردينال أرجنتيني يبدو منغمسا في الدين من الناحية الروحية لا الشكلية، يعشق مشاهدة مباريات المنتخب الأرجنتيني ويعشق الرقص، ولديه ذاكرة موسيقية محترمة. يتواجه الرجلان بعد سبع سنوات، هذه المرة ليس كطامحين في التنصيب الباباوي، ولكن لأن الكنيسة تعاني ضغوطا شديدة، بسبب تسريبات تؤكد فسادا ماليا وجنسيا، ووثائق تقول إن دور البابا شكلي، وهناك من يقرر من خلفه، وأحيانا بدون علمه، جورجي بيرغوغليو عندما قابل بينديكت كان هدفه أن يقبل الأخير طلبه كي يحظى بالتقاعد المبكر، لكن البابا بينديكت كان يرمي بالموضوع بعيدا في كل مرة يطرحه بيرغوغليو، كان يستدرجه لقضاء وقت أكثر معه، كان يبحث عن فرصة لمحادثة طويلة لا يثق بينديكت في خوضها مع أي أحد داخل أسوار الفاتيكان، في النهاية هذه المحادثة هي الفيلم الذي شاهدناه.
منذ أول لقاء بينهما بدأنا نحصي الاختلافات بين الرجلين، فبيرغوغليو بسيط، يقيم علاقات مع الجميع، في فترة انتظاره لبينديكت مثلا، يتجول مع البستاني ويسأله عن النباتات وعن عمله، البابا بنيديكت ـ ربما- لم يسبق له أن فكر في محادثة لا يكون فيها طرفا آمرا. هكذا كان يقف طرفان يمثلان أعلى سلطة دينية في نقاش ديني، وكل واحد منهما لديه وجهة نظر عن كيفية تسيير الكنيسة الكاثوليكية، ويستعرضان وجهتي نظرهما حول المعتقدات والمسؤوليات، التي تهم أكثر من ملياري شخص حول العالم، في زمن تمر منه الكنيسة بفترة حرجة بسبب فضائح جنسية، ومالية ظهر منها القليل فقط، فقد صارت مدفوعة إلى التغيير كي لا تواجه فقدان أتباعها.
هذه المحادثات اللطيفة في مجملها، الطويلة حد الملل أحيانا، كانت تنقد نفسها بين الفينة والأخرى، بالغوص في ذاكرة بيرغوغليو، بالعودة إلى بوينس أيرس عام 1956، الفترة التي أحب فيها، وقرر أن يصير كاهنا، وتُعرج على الأحداث السياسية والاعتقالات التي شملت الجميع حتى رجال الدين، زملاء بيرغوغليو، وباسترجاعه لهذه الذكريات كان يسترجع آلاما كثيرة، فهو لم يساعد زملاءه بالقدر الكافي، بل عقد اتفاقا مع السلطة ليحمي نفسه وزملاءه على أن توقف السلطات اعتقالهم، لكن في النهاية اعتبر خائنا بسبب ما فعله!
الرهان على أنتوني هوبكنز وجوناثان برايس لتقديم سرد كلاسيكي يعتمد وجهتي نظر متمهلة كان رهانا في محله، فهوبكنز من جهة قدم حضورا عظيما، عبر تجسيده لحالة تعب قصوى متعددة المصادر، نفسية وجسدية، ومجهولة السبب، الشعور بالذنب، الضياع، انعدام الثقة. ضيق كبير عكسه محياه، لم يكن يستمع لإحدى المعضلات التي تعذب زميله إلا وقابلها بحسرة ونظرة ذابلة واستعداد لسماع المزيد، وكأنه يقول – لا عبر الكلام- أين يقع هذا في بحر ما اقترفته أنا؟ جمل متقطعة ونظرات متعبة وجسد باحث عن اقتناص أي متعة بعدما قضى زمنا في معاكسة رغبته، التي قد لا تختلف أحيانا عن رغبات أي انسان عادي! ففي نهاية المطاف كان الجميع يشترك في حب البيتزا وشرب السوائل الغازية، كما فعل هو وبيرغوغليو.
أداء جوناثان برايس، لم يقل جمالا عن أداء هوبكينز، لكن في اتجاه آخر، فهو عكس رفيقه، كان يرى السعادة في كل الأشياء من حوله، متواضع إلى أبعد الحدود، يوزع ابتساماته على كل من يقابله، لا يرى مانعا من إعلان حبه لفريق سان لورينزو، والمنتخب الأرجنتيني، برايس كان يبدو وكأنه يمتلك الإجابات لكل الأسئلة، لأنه ببساطة كان يفكر في نطاق أوسع مما يفكر فيه غيره من رجال الدين، لكن، الفيلم في هذه الناحية كان دعاية مجانية للكنيسة وللبابا فرنسيس تحديدا.
الفيلم في التزامه بنص (البابا) لأنتوني مكارتن، أو بالمساحة التي خرج فيها عنه لم يتورط في أي إشارات تدين الكنيسة، حتى اعترافات البابا بنديكيت كانت مجتزأة، ووجد المخرج الكثير من الحيل لعرضها، كأن نشاهد تأثرها بصمت على محيا بيرغوغليو وهو مندهش بما يسمع، الموضوع الوحيد الذي بدا واضحا هو الفضائح الجنسية لرجال الكنيسة.. رغم الأسئلة الكثيرة التي استطاع الفيلم إثارتها فقد ظلت الأسئلة الكبيرة مطروحة بدون إجابات، وربط مأزق الكنيسة بشخص حتى إن وقع في أعلى هرم الكنيسة، ثم ينتهي الأمر باعترافه وبالمنطق الديني نفسه الذي يطهره منذ ذنوبه فور الاعتراف، لا يضعنا في حالة اعتراف حقيقية، أي اعتراف الكنيسة نفسها. الفيلم بقي في دائرة المسموح به، وعرض الأقل من المعروف أزمة الكنيسة وعن الأحداث التي يعالجها الفيلم تحديدا، لكنه رغم هذا وذاك فيلم جميل وهادئ ويدعو إلى التفكير في نواحي كثيرة ليست مرتبطة بالدين بالضرورة.
المصدر: القدس العربي