سلوى زكزك: خبز بايت وإعانة… عن أحوال رمضان في دمشق

0

على باب بيت الجيران ثلاثة صناديق كرتونيّة ممتلئة بقشور الفول والبازلاء، إنّه موسم المونة! تعيش في المنزل ثلاث عائلات في بيت واحد، تتقاسم غرفه ومرافقه العتيقة والعمل والطعام، وأيضًا ضيق المنزل وكلفة المعيشة التي باتت سببًا لخلافات حادة، أسمع أصواتها حتى في بيتي.

قالت لي جارتي: “كسبنا المونة وكسبنا معها طبخة رز بفول طازجة مطبوخة بحبات الفول الناعمة والغضة في أول أيام شهر رمضان”، فقد أصبحت الطبخات الدمشقيّة العريقة والمحبّبة حلما بعيد المنال في ظل واقع يئن الناس فيه من وطأة الجوع وارتفاع الأسعار بطريقة غير معقولة وغير مسبوقة، إذ ارتفعت الأسعار أكثر من عشرة أضعاف عن رمضان الماضي.

غابت عن هواء دمشق روائح البيض المقليّ المجهّز خصوصًا لوجبة السحور، وغابت فتّات الحمص وصحون الفول المدمّس والمغمور باللبن عن وجبات الإفطار أيضًا، الأمر الذي ترك أثره على البائعين الذين يقاومون غول الفقر.

يشكو لي أبو حسن (اسم مستعار/ ستون عامًا) بائع الفول والحمص في سوق ساروجة، من قلّة الطلب على بضاعته، وقد اضطر لخفض إنتاجه من مادة المسبحة (الحمص) بسبب تراجع الطلب عليها وانقطاع الكهرباء المُزمن والطويل ممّا يهدّد بفسادها، لأنّ “الحمص عمره قصير، كنت أسلق ثلاثة كيلو غرامات منه يوميًا، أما الآن فبالكاد أسلق كيلو واحد”، لأنّ الناس تطلب كميات لا تتجاوز نصف الكيلوغرام فقط، سواء من الحمص أو من الفول، “وتطلبها بلا زيت”، لأنّ ثمنها يرتفع بسبب الارتفاع المهول في سعر زيت الزيتون حتى وصل سعر الليتر الواحد إلى حدود الثلاثة عشر ألف ليرة (حوالي أربعة دولارات أمريكيّة ونصف).

يضيف شبه جازم وعلامات الخيبة تكسو وجهه، ويده تتردد بين لجم رجفان شفتيه أو الإشارة إلى الحجم القليل لبضاعته “صاروا يزيتونه بالزيت النباتي! مع أنّ الزيت النباتي يُفقد الفول طعمته الأصلية”. 

لا إفطار في البيوت

يقول البائع الذي يخالط الزبائن والناس يوميًا لحكاية ما انحكت إنّ “العمال المياومين أو الذين يناوبون ليلًا حتى في رمضان، وحتى الباعة الجوالين وأصحاب البسطات، تخلّوا عن عادة الإفطار في بيوتهم بسبب ارتفاع أجور النقل وندرة المواصلات، عدا عن سعيهم الدؤوب وشبه اليائس لكسب غلّة ترمّم النقص الحاد في السيولة وتعثّر البيع وندرته. هم يشترون الفول فقط لإفطارهم، أنا متأكد أنّهم لا يشبعون، خاصة وأنّهم يشترون وجباتهم بلا زيت وبدون مخلل أو بصل، وبلا خبز أيضًا تخفيفًا لسعر الوجبة، فغالبيتهم يُحضرون خبزهم معهم في الصباح”.

روى البائع لحكاية ما انحكت قصة شاب طلب منه وبرجاء حار بصلة وحبتين من مخلل الفليفلة الحادة مجانًا.، لأنّه لا يملك القدرة على دفع ثمن هذه الأشياء القليلة.

وداعًا لحلويات رمضان

طالما ارتبطت طقوس رمضان بالحلويّات الخاصة به، مثل الناعم والمعروك والنهش، لكن الكميات المعروضة، رغم قلتها، مقارنة بأيّ موسم رمضاني سابق، تفتقد من يشتريها. ففي باب الجابية، حيث توجد أشهر محال بيع القشطة والقطايف، يستوقف فتى سيدة، ويقول لها، “أختي مريضة وبدها قطايف بقشطة”!

الحالة العامة ترفض أيّ سؤال للتأكد من صحة خبر مرض الطفلة من عدمه، ثمّة طلب إنساني في وقت يكتسب فيه المنح ميزة نفسيّة وروحانيّة خاصة. تقترب السيدة من صاحب أصغر محل لبيع القشطة، تمنح البائع ألف ليرة، وتقول له: “أنت وسماحة نفسك! فأنا لم أشتر القشطة حتى لنفسي!”.

يشتكي باعة الحلوى الشعبيّة من تراجع حجم مبيعاتهم أيضًا، ومن تراجع هامش الربح، يقول لحكاية ما انحكت أحد باعة الحلوى الشعبيّة في كراجات السيّدة زينب واسمه أبو هيثم (اسم مستعار)، وعلامات العرج واضحة على جسده بعد أن فقد حديثًا إصبعين من إحدى قدميه بسبب إصابته بمرض السكري: “هامش الربح كان يصل إلى حوالي الأربعين بالمئة لكلّ كيلو غرام من الحلوى، لكنه الآن تراجع إلى ما دون العشرين بالمئة، وهذا الهامش لا يغطي أجور المحل ولا أجور العمال ولا كلفة تشغيل مولدة الكهرباء”.

“من أكياسهم تعرفونهم”

تبدو هذه الكلمات الثلاث توصيفًا حقيقيًا للحالة المزريّة التي تعصف بالسوريين والسوريات، أكياس صغيرة الحجم لا تحتوي إلّا على القليل من كلّ شيء بعد أن اعتاد الدمشقيون على الشراء بالقطعة وانتهى زمن الشراء والبيع بالكيلو، خيارَتين لا غير وثلاث قطع من الفلفل الأخضر وربطة بقلة وربطة بقدونس…

ارتفعت قيمة كلّ المواد الأساسيّة حتى وصل سعر ربطة البقلة إلى خمسمئة ليرة سوريّة (حوالي 25 سنت أمريكي)، والفتوش طبق رئيسي في رمضان، لكن لا بدّ من التقنين حتى في الفتوش، طبق صغير يوّزع محتواه عبر لقيمات محدّدة لكلّ شخص، واللسان العاجز يعزّي صاحبته حين تقول لنا: “القليل من كلّ شيء أفضل من أن يبقى فيُرمى”.

أما السَلَطَة فتعتمد على الخس والقليل من البندورة، لأنّ الخيار ارتفع في سعره حتى وصل إلى الألفي ليرة سوريّة للكيلو غرام الواحد (حوالي 70 سنت أمريكي)، والتنافس يبلغ أشده على ما يتبقى في صناديق الخضار من اليوم السابق: بندورة طريّة جدًا، بطاطا مُكسّرة الأطراف أو زرقاء الحواف، خسٌ ذابل وبصل طريّ صغير… يتنافس عليها الناس، فقط، لأنّها أرخص سعرًا، والسيّدة المُسنّة تحاول جاهدة لملمة أكبر عدد ممكن من أوراق الخس المرميّة على أرض الشاحنة التي تنقل الخضار، والتي يبرّر باعتها ارتفاع أثمانها بسبب تعذر تأمين المحروقات لنقلها وارتفاع أثمانها إن هي توفرت.

كلّ ما يبدو حجمه كبيرًا فهو ربطات خبز ليس إلّا، وبعض الأكياس التي تحتوي على كميّة كبيرة من الحشائش، واسمها المتداول هو “بيعة”. يُطلق عليها هذا الاسم لأنّها تُباع بسعر قليل، وهي عبارة عن كومة ذابلة من السبانخ أو السلق أو… تباع دون أن يتم وزنها.

بعد الارتفاع الجنوني في الأسعار وبعد تحوّل الخبز إلى مادة نادرة يصعب تأمينها ويحتاج الحصول عليها للوقوف طويلًا في الطوابير، اكتسب السوريون عادة جديدة، إذ باتوا يجمعون بقايا الخبز البائت أو المتيبّس أو سيء التحضير، ثم يضعونها في أكياس ويعلقونها على أيدي حاويات القمامة، كي يراها العابرون فيتشجعون على أخذها.

أراقب امرأة في مقتبل الثلاثين من عمرها، بجسد نحيل ووجه شاحب وعينين قلقتين وفم مطبق بشدّة وكأنّه ملصق بلاصق قوي، تتفحص أحد أكياس الخبز تسحبه وتقول محدثة نفسها: “أمّنا على خبز الفتة”، وهي تقصد فتة الخبز والشاي للأولاد. قد تكون هذه “الوجبة” هي طعام الإفطار أو السحور. تلمح السيّدة، على طرف الرصيف علبة لبن بلاستيكيّة بيضاء نظيفة مغطاة بورقة بلاستيكيّة شفافة، تعاينها فتكتشف داخلها نواة نبات كوسا طازجة نُزعت حديثًا، تفرح بها وتقول “أمّنا على طبخة مفركة كوسا للفطور”، تحمل غنيمتها وتمضي.

تراجع دور الجمعيّات الأهليّة

تقلّص دور الجمعيّات الأهليّة التي كانت تقدّم وجبات للصائمين بسبب قلّة المانحين وبسبب ارتفاع كلفة تأمين خطوط المساندة للمحتاجين، والذين قدّرت الأمم المتحدة أعدادهم بثمانين بالمئة من الشعب السوري، كما تراجعت، عددًا ومضمونًا، المنح الموّزعة من الجهات المانحة، من حيث محتوى الصناديق المُقدّمة، ومن حيث عدد الأسر المشمولة بأحقيّة التوزيع أو المنح.

باتت سلّة الإعانة حلمًا صعب المنال بعد أن تحولت وعبر عشر سنين مضت إلى شريك رئيسي يشارك السوريين والسوريات، حتى في اختياراتهم لوجباتهم اليوميّة. من الضروري الإشارة إلى أنّ “ماركة تجارية” جديدة صارت أشهر من نار على علم، اكتسحت الأسواق والحياة السوريّة، “ماركة” لها سحرها ووقعها الخاص ولها مواصفاتها الحصريّة، والتي تحولت إلى سمة عامة وإلى نمط اقتصادي موازي، وهي “الإعانة”، فصرنا نرى زيت الإعانة وبرغل الإعانة ورز الإعانة وشاي الإعانة، حتى صارت عبارة “الإعانة” رمزًا سوريًا ممهورًا بشعار منظمة الأغذيّة العالميّة ويتلاعب به تجّار الحرب وتجّار السوق السوداء.

في إحدى حافلات نقل الركاب المتهالكة، تجري سيدة اتصالًا مع زوجها، لتطمئنه بأنّها قد حصلت على صندوق إعانة، تجلس على مقعد جانبي حديدي ضيق، تبدو السيدة فَرِحة بما تحمله رغم علامات التعب الواضحة وقطرات العرق الغزير على جبهتها التي تحاول تجفيفها بمنديل ورقي متفتت. يطلب منها زوجها فتح الصندوق وإخباره عن كلّ المحتويات، تحاول تأجيل تلبية طلبه، لكنه يُصرّ على ذلك، تفتح غطاء الصندوق الكرتوني وتبدأ بالعد، تمتد الرؤوس القريبة لتشاركها تسميّة المواد الموجودة، وعندما تنتهي، يسألها غالبيّة الركاب عن كيفيّة الحصول على صندوق مماثل: “هل يحتاج عقد إيجار، شهادة وفاة، دفتر عائلة…؟”. يضيق صدر السيدة، تصمت بعد أن قالت: “ما بعرف شي، زوجي سجّل عليها”.

قرّرت سلمى وهي معلمة لغة عربيّة لطلاب المرحلة الثانوية ورغم اقترابها من سن التقاعد استضافة والدة زوجها في بيتها طيلة شهر رمضان، كان لديها حجة قويّة في ذلك، رغم ضيق ذات اليد ورغم ضيق المنزل. أعلمت زوجها بأنّ استضافة الأم سيوفر عليهم الكثير، فبدلًا من تكلفة ومشقّة إيصال الطعام إلى الأم يوميًا وبدلًا من دعمها بمبلغ مالي محدّد تغطي فيه نفقات الوجبات في رمضان أو تزويدها بمواد غذائيّة كالسمن والزيت والأرز واللحم، سيعيشون سويّة ويتشاركون الطعام القليل. برّرت قرارها قائلة لحكاية ما انحكت: “الطبخة صايرة وصايرة! وعندما ترى ما نأكله بأم عينها لن تطلب الأفضل أو الأكثر كلفة”.

مصائب كورونا “فوائد”

ربما كان من “محاسن” جائحة كورونا الفتّاكة ورغم حصدها لأرواح الكثيرين، ورغم حالة الهلع التي دبّت في حياة السوريين، خاصة في ظلّ عدم قدرتهم على اتباع كلّ إجراءات الوقاية المطلوبة أو تأمين نفقات العلاج بصورة شخصيّة، إلّا أنّها كانت ذريعة مواتية لتبرير عدم الالتزام بالدعوات العائليّة. يبدو أنّ قرارًا شبه جماعي قد أُبرم ونفّذ!  لا دعوات لأحد خارج نطاق الأُسرة الصغيرة نفسها، وإن تمت الدعوات تحت إلحاح الضرورة، فتقاسم الوجبات والأطباق هو أحد الحلول المتبعة تحت ضغط الغلاء المجنون وسوء الأحوال الاقتصاديّة.

تتبدل علاقة دمشق بأهلها إلى ما يشبه الخصومة، خصومة عاطفيّة وانعدام في التواصل. تتصدر الشكوى كلام الناس ولغتهم، ويبلغ الخوف منتهاه في عبارة “الله يجيرنا من الأعظم” وكأنّ كل ما يجري يقبل انحدارًا أكبر! أو يسمح لنفسه بفرض أوضاع كارثيّة أوسع انتشارًا وأكثر أذىً، وكأنّ السوريين والسوريات ينتظرون الأكثر سوءًا بكامل اليقين. لكنهم، وبرغم كلّ هذا يربون الأمل في زاويّة حادّة وضيقة في دواخلهم، علّها تنفرج أو تستقيم.

“هذي البلاد باتت ضيّقة حتى الاختناق وقاسيّة كلقمة خبز يابسة عافتها حتى الطيور الجائعة” يقول أحدهم. بات جليًّا أنّ الحياة الشاميّة قد بلغت درجة من الصعوبة لم تعد قابلة للاحتمال. يقول خالد (اسم مستعار)، النازح إلى دمشق أملًا بالنجاة: “كم أنا نادم على خوفي من ركوب البحر وترك هذه البلاد الخانقة”.

يقول متحسرًا وصدى أغنية تتردّد في الشارع؛ أغنية تقول كلماتها: “كلّ شيء ضاق، ضاق حتى ضاع”.

(حكاية ما انحكت)