سلمان زين الدين: العالم العربي والغرب يتقاطعان غرائبيا في رواية “مسيو داك”

0

منذ ربع قرن، باشر الكاتب العراقي نزار عبد الستار مسيرته السردية التي افتتحها بمجموعته القصصية الأولى “المطر وغبار الحقول”، التي صدرت في العام 1995، وتمخّضت عن ثلاث مجموعات قصصية، وخمس روايات حتى تاريخه، آخرها “مسيو داك” (نوفل / هاشيت أنطوان، ولا تزال المسيرة مستمرّة. وبالدخول إلى الرواية من عنوانها، نشير إلى أنّ مسيو داك هو أحد الاسمين المستعارين: دونالد داك وديزي داك، اللذين أطلقتهما شركة إيطالية على بطلي الرواية زياد وربى، للإيحاء بأنّهما من خلق والت ديزني، أي أنّهما شخصيّتان متخيّلتان وليستا واقعيّتين. وبالتوغّل في المتن الروائي، نكتشف أنّ المتخيّل منه يشكّل انعكاسًا لهذا العنوان.

في “مسيو داك”، يتناول الكاتب علاقة غريبة، غامضة، ملتبسة بين بطلي الرواية، زياد، رجل الأعمال والاقتصادي العراقي، وربى، عالمة النبات التي كانت تعمل في إيطاليا، على أرض لبنانية، ويروح يرصد تمظهرات هذه العلاقة في أطوارها المختلفة، منذ بدايتها حتى المآل الأخير في الرواية، وما يكتنفها من تواصل وانقطاع، وما يحفُّ بها من أدوار هامشية تقوم بها شخصيات مساعدة. وهي علاقة يتجاور فيها الحب والغرام والخضوع والتبعيّة والشغف والجنس والعمل. ويختلط فيها الخاص بالعام، والواقعي بالمتخيّل، والحقيقي بالأسطوري، والعلم بالخرافة. وتُحيط بها أجواء بوليسية استخباراتية توفّرها أدوات داخلية شرعية، وأخرى خارجية غير شرعية، ما يجعلنا إزاء خلطة روائيّة غريبة، تشترك فيها كلٌّ من هذه المكوّنات، بمقدار أو بآخر. وإذا كان الكاتب يُسند إلى زياد، أحد بطلي الرواية، مهمّة روي الأحداث، فإنّه يُسند إلى بطلها الآخر، ربى، مهمّة صنعها. وبذلك، يقيم نوعًا من التكافؤ بين الاثنين في إطار من التكامل والتواشج الروائيّين اللذين يبلغان حدّ التوحّد في مفاصل معيّنة.

في مقهى المنارة البحري، تبدأ العلاقة بين طرفيها، في العام 2013، حين تنهمر موجة بحرية على ربى تبلّلها وتغرق طاولتها، فيبادر زياد إلى مساعدتها وإعطائها جاكيته لتقيها من البرد. وهنا، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذه البداية الوقائعية للرواية (ص 21) هي غير البداية النصّية التي تبدأ من نقطة متأخّرة، على المستوى الوقائعي، تقترب من نقطة النهاية (ص 7). وهكذا، نكون إزاء بدايتين متباعدتين، وقائعية ونصية، تفصل بينهما سبع سنوات، هي عمر العلاقة التي تغطّيها الرواية، فيما نكون إزاء نهاية واحدة، يتّحد فيها النصّي بالوقائعي. على أن المسافة بين البداية بنوعيها، والنهاية بوحدتها، تملأها مجموعة من الأحداث غير المتعاقبة زمنيًّا بالضرورة، بل ثمّة مسار متكسّر، يعتمد فيه الكاتب التقديم والتأخير وفقًا لاعتبارات فنّيّة. وهو يفعل ذلك، ليس على مستوى الوحدات السردية وحسب، بل على مستوى المشاهد الروائية المتنوّعة ضمن الوحدة السردية الواحدة، وقد يتمّ الانتقال من مشهد إلى آخر دون قرينة مباشرة تستدعي مثل هذا الانتقال.

في اللقاء الثاني بينهما، في المكان نفسه، تُعيد له الجاكيت، يتّفقان على التواصل الالكتروني بأسماء مستعارة، الأمر الذي يحصل لاحقًا، ما يشي ببداية غامضة لعلاقة يكتنفها الغموض حتى مراحل متقدّمة من نهايتها النصّية، فهو لا يعرف اسمها الحقيقي إلاّ بعد أربع سنوات من البداية، وهي لم تسأله يوماً عن طبيعة عمله حتى بعد مرور سبع سنوات على تلك البداية، الأمر الذي يطرح واقعية الرواية على بساط البحث ويدعو للاستغراب. وإذا كانت  العلاقة بينهما تمتد لسبع سنوات، وتحدث بداياتها المتقطّعة في مقاهي بيروت، فإنّ الجزء الذي يستأثر بأحداث الرواية يحصل في الجبل بين بلدتي بمهريه وحمانا، في السنة الأخيرة من عمر العلاقة الروائي، باعتبار أنها لا تنتهي بنهاية الرواية بل تبدأ بداية جديدة.

باقتفاء أثر العلاقة بين الطرفين، نرى أن ربى عالمة بأمراض النبات، كانت تعمل في شركة أبحاث إيطالية، وتقوم ببحث حول حشرة تهدّد أشجار الكرز في أوروبّا، حتّى إذا ما رجعت إلى لبنان، وتعرّفت إلى زياد، وحوّلت اهتمامها إلى الكرز اللبناني، وقرّرت عدم العودة إلى إيطاليا، تقوم الشركة المذكورة بممارسة شتى الأساليب لاستعادتها، وتكلّف دومينيك الموظّفة اللبنانية الأصل بهذه المهمّة، فتلجأ الأخيرة إلى زياد لمساعدتها، مستخدمة الترغيب الصريح تارةً، والترهيب المبطّن تارة أخرى، وحين تفشل في الأسلوب الأوّل، تلجأ إلى الثاني، فتقوم بواسطة أدوات محليّة بمحاولة خطف سلمى، شقيقة زياد المقيمة في طرابلس، وبحرق البناية التي يملكها في المدينة، في جوٍّ بوليسي تُستخدَم فيه آليات المراقبة والرصد والمطاردة والخطف والحرق. وهنا، تلعب الأجهزة الأمنية دورًا في حماية زياد وربى، فتتدبّر خروجاً وهميّاً من لبنان للأوّل، ودخولًا سرّيّاً إليه للثانية. هذه الأحداث يشترك فيها مجموعة من الشخصيات الثانوية التي تقوم بأدوار لوجستية أو مساعدة، وتسهم في تبلور المشهد الروائي العام، فنرى دومينيك وأدواتها، من الجهة الإيطالية، ونرى رندا وأبو يعقوب وأنيس وعازف الليل وموسى، من الجهة اللبنانية. ولكلٍّ منها دوره، الصغير أو الأصغر، الذي يُسنده إليه الكاتب.

“جنينة توفيق”

على أن البؤرة التي تتمحور حولها الرواية هي “جنينة توفيق” في حمّانا، حيث تصبّ ربى اهتمامها بمساعدة زياد على محاربة حشرة ميفيا التي تهدّد أشجار الكرز، فتمضي الليالي في هذا العمل، مستخدمةً أساليب علمية حينًا وبدائية أحيانًا، ويقوم زياد بدور المساعد الأمين الذي ينفّذ كلّ طلباتها، ويسهر على راحتها، ويقوم بتحميمها وإلباسها ثيابها كطفلة مدلّلة، وينخرطان في عمليات جنسية مثيرة. وهو لا يغيّر من سلوكه هذا حتى بعد أن تعترف له، في لحظة يأس، أنّها تعمّدت إطالة مدّة العمل، واستخدمت أساليب بدائية فيه، لتختبر مدى إخلاصه لها. وإذ تتمخّض جهودهما في القضاء على  ميفيا عن فشلٍ ذريع، يأتي تعاهدهما على عدم الافتراق، في نهاية الرواية، ليبدّد قلقها من زوال جمالها، وخوفها من ميفيا الزمن الذي يهدّد الجمال كما تهدّد الحشرة أشجار الكرز. ويأتي تقديم الطفلة مريم صحن الكرز لهما، ذات صبيحة، ليؤكّد على استمرار الحياة رغم ما يعتورها من حشرات وأمراض. وبذلك، تغلب إيجابية النهاية على سلبيات البداية وما بينهما.

إنطلاقاً من هذه الوقائع، نخلص إلى أن زياد هو شخصية خاضعة، تابعة، تنفّذ ولا تقرّر، تُنكر ذاتها، وتقمع أفكارها غالبًا، وتعمد إلى مسايرة ربى في جميع أفكارها ورغباتها وانحرافها دون أدنى نقد أو اعتراض، وتزيِّن لها كلَّ ما تفكّر فيه. وهذه السلوكيات لا تتناسب مع المقدّمات التي أحاطت بهذه الشخصية، بدءاً من دراستها الاقتصاد في جامعة بريطانية، مرورًا بنشاطها الاقتصادي، وصولًا إلى مشاركتها في تاسيس جمعية البنوك العراقية، وهي مقدّمات تفترض أن من تحيط به هو شخصية قويّة، تبادر وتقرّر وتفعل، ولا تكتفي بموقع ردّة الفعل، ممّا تتكشّف عنه علاقته بربى. ونخلص إلى أنّ ربى هي شخصية مزاجية، غامضة، آمرة ناهية، تأمر فتطاع، وتطلب فَتُستجاب، تستبطن قلقاً من زوال جمالها، وتُسقِطُهُ على شجرة الكرز الجميلة المهدّدة بحشرة الميفيا، في معادلة جميلة، تقيمها الرواية بين الشجرة والمرأة، من جهة، وبين الحشرة والزمن، من جهة ثانية. على أنّ هذه الشخصية، رغم قوّتها، نراها تستسلم لخيارات زياد في اختيار ثيابها وإملاء بعض أفكاره الأسطورية عليها، وبذلك، تتجاور القوة والانصياع ضمن الشخصية الواحدة. وفي الحالتين، ثمة أسئلة تتعلق ببناء الشخصية تطرح نفسها على الكاتب.

إلى ذلك، لا بدّ من الإشارة إلى الممارسات الجنسية التي تتناثر في غير موضع من الرواية، وهي ممارسات تبرّرها طبيعة العلاقة بين بطلي الرواية لو انها بقيت في الإطار العادي العام، أمّا أن تنحدر إلى بعض التفاصيل المقزّزة، فذلك ممّا ينحدر بالوظيفة التحفيزية للجنس المقبولة روائيّاً إلى دركٍ لا قبل للرواية بتحمّله.

من جهةٍ أخرى، ثمّة مفارقة كبرى في الرواية، بين واقعية الفضاء والشخصيات بحيث تذكر بلدات وأماكن معروفة وشخصيات سياسية محدّدة بالاسم، وبين غرائبية الأحداث التي يطغى فيها المتخيّل، البدائي، والأسطوري، على ما عداه. وبذلك، نكون إزاء حالة من عدم التلاؤم بين الشكل والمضمون، أو بين المحتوى والإطار. ومع ذلك، تبقى “مسيو داك” رواية تزخر بالتنوّع، على أنواعه، سواءٌ على مستوى الفضاء الروائي أو المشاهد أو الشخصيات أو الأنماط الكتابية أو اللغة، ولن يعود قارئها من غنيمة المتعة بالإياب.     

*المصدر: اندبندنت        


ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here