في الأسابيع الأخيرة، وعلى الرغم من الجولة الثانية من الموت مع وباء كورونا في مجمل المحافظات الفرنسية، كما في العالم، وعلى الرغم من دخول أكثر من مليون إنسان تحت خط الفقر في المعايير الفرنسية، نتيجة البطالة والانهيار الاقتصادي والإغلاق، وعلى الرغم من توضّح الآثار الكارثية للإهمال البيئي الذي شاركت فيه الحكومات، كما الشركات، في ظل صمت شريك لمواطن عاجز، وعلى الرغم من صراخ القطاع الصحي الفرنسي للتنبيه إلى نواقصه وعجز إمكاناته البشرية، كما المادية، عن مقارعة موجات جديدة من الوباء، إن لم يُنظر إليها بطريقةٍ تختلف عن عقلية السوق، وعلى الرغم من شبه انهيار القطاع الإنتاجي الثقافي الذي وجد مجمل أعضائه أنفسهم على ناصية الطريق بين ليلة وضحاها، نتيجة توقف الإنتاج الفني، على الرغم من هذا كله، لم تجد وسائل الإعلام الفرنسية، كما بعض الساسة وفي مقدمتهم إيمانويل ماكرون، الرئيس الحالي والمتطلع إلى الاستمرار بعد انتخابات 2022، إلا مشكلة الإسلام في فرنسا، وما أُطلق عليها “الانفصالية الإسلامية” للتركيز عليه، في التحليل وفي النقاش وفي أخذ العبر وفي اجتراع القوانين الناظمة. علماً أن فرنسا تنفرد من بين كل الدول التي تنادي بالعلمانية بعدد القوانين والمراسيم التي تؤطر سياساتها في هذا المجال. ونكاد نعتبر أن هناك استعداداً فرنسياً لإصدار قانون يتعلق بأدق التفاصيل في الممارسات حتى، فلربما استيقظنا يوماً على قانون يحدّد المسافة المِترية بين من لديه لحية تدور حولها الشكوك والناس “العاديين”.
بعيداً عن شيطنة أي طرفٍ، سعى عقلاء من رجال العلم والسياسة والمجتمع المدني إلى مواجهة “الموجة الجديدة” من التنميط الاجتماعي والديني والسياسي وتجذير العداء لمكون ديني فرنسي، وتنويع الخلط في المفاهيم التي صار بعضها لا يُميّز بين المسلم والإسلامي والمتطرّف والإرهابي، فصار كثيرون ممن يُبحرون في علم الاجتماع يُحللون الظواهر التي تحيط ببعض البيئات المهمّشة، التي ربما وضعتها خطأً في إطار التنميط السائد. أما الباحثون في جغرافيا المدن، فقد أدلوا بدلوهم لعقلنة الحوار بشأن ظواهر التطرّف الديني لدى بعض المسلمين، وربطها بعوامل الإقصاء، حتى الجغرافي منها وانعدام الروابط الميكانيكية حتى لا نكتفي بالثقافية، مع باقي المدينة. وتوجّه المتخصصون في علوم التواصل والاتصال إلى تحليل الخطاب الإعلامي السائد، الذي يعتبر، عدا استثناءات نادرة، كل ملتحٍ متطرّفاً، وأن كل سيدة تضع غطاء رأس هي خاضعة ومجبرة ومُعنّفة، وأن هناك “انفصالاً” إرادياً عن مؤسسات الجمهورية العلمانية الفرنسية، وتتقدّمها المدرسة. كما رجع المؤرخون إلى تاريخ الظواهر على أنواعها وارتباط هذه الظواهر بأحداث تاريخية محدّدة، أو بجذور نظرية وجدت لها في قراءاتٍ مشوهةٍ للتاريخ الديني مرتعاً.
ضاف إلى ما سبق سُعار بعض الأصوات المتطرّفة، يسارية كانت أو يمينية، من الجهة المقابلة للتطرّف الديني، التي تستغل كل شاردة وواردة، لتنميط المسلمين ولوضعهم في قوالب جاهزة تصمهم بالعنف وبالإرهاب وبالتخلف. كما تساهم في إقصائهم أكثر فأكثر، داعية إلى تبني سياساتٍ تحدّ من حريات بعض المكونات لمجرد انتمائها إلى الدين الذي تعمل هذه الأصوات على شيطنته. وتعتمد هذه المجموعات على رجال علمٍ، كان لهم يوماً نصيب في البحث الجاد، ولكن العطالة الذهنية المرتبطة بعوامل عدة دفعتهم إلى البحث عن شهرة إعلامية أو تقرّب سياسوي، ما دفعهم إلى ليّ ذراع العلم الجاد، ليُناسب أهدافاً مسبقة الصنع وضعوها لأنفسهم. وهؤلاء ليسوا فقط من الضفة الشمالية للمتوسط، بل أيضاً، وخصوصاً، من ضفته الجنوبية. وقد انتشرت، في الآونة الأخيرة، كتابات بعض “علماء” الاجتماع وبعض الحكواتية من دول جنوب المتوسط ممن يكتبون في كره الذات العربية، الأمازيغية، الكردية والإسلامية، وذلك لمجرد التميّز والسعي إلى الحصول على قبول، ولو بعد التقاعد، من وسطٍ كان يهملهم ويقصيهم في أوج عطائهم العلمي.
واجه هؤلاء جميعاً، أو يدّعي مواجهتهم، أصواتٌ يمتزج فيها التطرف بالجهل، مع بعض توابل التحريف والتشويه، مع نكهة لعب دور الضحية الدائم الذي يعاديه الجميع، والذي لم يسأل نفسه يومأً عن سرّ هذا العداء، وهل يمكن إيجاد عوامل ذاتية تساعد على إزالته أو على الأقل، التخفيف منه؟ هؤلاء، سيستلّون سيوف “الجهاد” اللفظي المليء بنظرية المؤامرة والشتم والتقريع، ويحيدون عن أيّ مذهبٍ علمي في الجدل وفي النقاش، متحجّجين بعداء الآخر وبوجوب مواجهته بأسلوبٍ لا يمتّ إلى المنطق بصلة، فيمنحون، بوعي أو من دونه، عصاً غليظة للطرف الآخر، ليستمرّ الضرب الموجّه بإعطاء التبريرات المناسبة.
في أتون الصراعات تلك، التي ازدهرت بوجود لعنة وسائل التواصل الحديثة، حيث صار كل من كتب، بمعنى أو دونه، باحثاً، وكل من رجع إلى نص ديني، ولو اقتطعه وشوّه معناه، داعيةً، يكاد غبار الكلام يحجب كلام المنطق البعيد عن الإثارة والاستثارة. في هذه المرحلة العصيبة، وكما سبق ذكره، يتمسّك الباحثون الموضوعيون في فرنسا، كما كتبهم الجادة، بقيم العلمانية، التي من أهمها حياد الدولة في المسألة الدينية، ويواجهون أقرانهم المتنطعين لقولبة الآخر المختلف وتنميطه، وحينما بدأ عملهم في بعث القلق لدى تيار الإقصاء والتنميط، قطع سفاح بشري رأس مدرّس تاريخ في إحدى ضواحي باريس باسم الإسلام. وكأنها مؤامرة.
*العربي الجديد