لعبت وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة على أنواعها دوراً مهماً في التأثير على مسارات الحركات الاحتجاجية والثورات العربية عموماً وفي سوريا خصوصاً منذ البداية مع الأخذ بعين الاعتبار لتطورها باتجاهات مستقيمة أو متعرجة، وحتى باتجاهات منحرفة. ووصل الأمر ببعض الباحثين المهتمين بهذه الظاهرة من سوريين ومن غير السوريين للحديث عن “ثورات الفيسبوك”. كما انضم إليهم أيضاً بعض الصحفيين في هذا التقييم مشددين على دور رئيسي لهذه الوسائل. ولم يهدف هذا التركيز عالي الأهمية إلى تبخيس من أهمية هذه الثورات والاحتجاجات بقدر ما كان الهدف منه تسليط الضوء على أهمية وسائل التواصل تلك ومدى تأثيرها الملموس في انتشار هذه الاحتجاجات كما في وقعها على المجتمع المحلي كما الإقليمي كما الدولي.
وعلى الرغم من أن حجم المبالغة في الأثر والتأثير الذي ترجمته هذه الكتابات كان كبيراً عموماً، خصوصاً عند التأكد العلمي المستند إلى الأرقام والوقائع، والذي يشير إلى ضعف انتشار المعلوماتية في أكثر البلدان التي عرفت الاحتجاجات الشعبية، استناداً إلى البنية التحتية للمعلوماتية إضافة إلى الإمكانيات المادية التي تخوّل الناس العاديين الولوج إلى خدماتها، فإن الدور يبقى مهماً نسبياً.
مع تحوّل الثورة السورية إلى مقتلة، ازداد دور هذه الوسائل وعظم تأثيرها عبر نقل المعلومات الدقيقة أو المبالغ بها وصولاً إلى الكاذبة منها. ومن خلال لجوء ملايين السوريين إلى دول الجوار أو إلى أبعد منها جغرافياً، فقد تعزّز الاعتماد على هذه الوسائل من كل الفئات الجنسية والعمرية والاجتماعية. كما صار من الممكن الحديث عن مسار “محو أمية رقمي” أصاب فئات واسعة ممن لم يكن الاعتقاد يحمل على تمكنهم يوماً أو حاجتهم يوماً إلى استخدام هذه التقنيات الحديثة. وغصّت الشبكة العنكبوتية بالنشاط الشخصي كما الجماعي عبر صفحات الأفراد كما المجموعات والأحزاب والهيئات على أنواعها وتناقضاتها.
وبعيداً عن تخصيص الحالة السورية، حيث إن ظاهرة اتساع رقعة وتأثير وسائل التواصل صارت كونية، مع الإشارة إلى بعض الاختلافات النسبية من بلد إلى آخر ومن ثقافة إلى أخرى، فقد تميّز الفضاء الإلكتروني السوري بشكل متعاظم وذلك بالتوازي مع تطور المسار من حراك سلمي إلى عمل عسكري تحوّل بدوره وبشكل متسارع في اتجاه تدمير الحجر كما البشر. وما كان لصور المظاهرات في بداياتها السلمية أن تنتقل إلى الرأي العام المحلي كما الخارجي إلا عبر تصوير بدائي تم بثه عبر هذه الوسائل بشكل مباشر. وقد تأكدت الحاجة إلى هذا الأسلوب بسبب انقطاع الداخل السوري عن العالم الخارجي بحيث إن الصحافة الغربية مُنعت بوسائل مختلفة من الجهات الرسمية، إن لم تقبل بأن تستغل للدعاية لها. وقد وصل الأمر إلى إيقاع ضحايا بين الصحفيين الذين تجاسروا وقدموا لتغطية الأحداث بموضوعية بعيداً عن تأثير وزارة الإعلام. يُضاف إلى ذلك، غياب الأمن والأمان لكي يقوم هؤلاء الإعلاميون بتغطية الأحداث من الطرف الآخر. فقد قامت بعض الفصائل المعارضة باختطاف عدد منهم لأسباب مالية كالعصابات الإجرامية. وقد شكّلت هذه العمليات انتهاكاً صارخاً لما قدمته من وعود مسبقة لتأمين الصحفيين. وقد وصل الأمر إلى قيام بعض مرافقي الصحفيين من “الإعلاميين” المحليين ببيعهم إلى فصائل بعينها قايضت دولهم عليهم مقابل مبالغ خيالية. وبالنتيجة، فموت السوريين في مختلف المناطق جرى التعتيم عليه بإرادة وتضافر “جهود” أطراف المواجهة من جلاّدين وبعض الضحايا.
مع السنة العاشرة للمقتلة، أصبحت وسائل التواصل أيضاً منابر لتصفية الحسابات وشتم الآخر المختلف وانتهاك حرمات الأفراد حتى ولو كانوا من الصف نفسه “المعارض” أو “الموالي”. كما أبدعت هذه الوسائل في نشر الأكاذيب التي وجدت لها في عقول المتابعين مرتعاً خصباً. فكم من شخوصٍ معارضة تم الاعتداء عليها بنشر شائعات مكتوبة أو مصوّرة بحجة الغيرة على العمل الوطني؟ وكم من “إعلامي” الصدفة صار نجماً افتراضياً يُحلّل ويتوقع ويتوعّد؟
وفي ظاهرة افتراضية متطورة سلباً جداً، استطاع البعض من الأفراد أن يضحوا من أهم نجوم الفضاء الافتراضي. وقد استطاعوا أن يجذبوا المئات من المتابعين، بل وأكثر، لمجرد تمكنهم من حشو مداخلاتهم بتوقعات تتجاوز المنطق السياسي القائم مع إضافات من الكلمات النابية. ولطالما ادّعى أصحاب هذه الممارسات أنهم يحملون معلومات حصلوا عليها من أصحاب القرار الإقليميين والدوليين.
إلى جانب عباقرة التحليل القائم عموماً، وفي أحسن الأحوال، على التفكير الرغبوي، أو على مجموعة متضافرة من عقد النقص والبحث عن موطئ قدم في مكان ما في مقدمة المشهد العام، اكتظت وسائل التواصل، بنسب عالية عددياً ومنخفضة نوعياً، بعمليات تناقل معلومات شخصية كاذبة بحق من يختلفون معهم أو يغارون منهم أو يحقدون عليهم. وصارت الذمم واسعة وامتنع هذا الصنف من “النجوم” عن احترام أية خصوصية تصريحاً أو عن التشكيك في أي إشاعة نشراً أو عن التواضع بالحسم والجزم تحليلاً.
وبشكل متعاظم، تعزّزه الخيبات الوطنية وضرورة التكيّف مع الوضع القائم، يتفاقم الدور السلبي لوسائل التواصل بعد أن سجّلت يوماً بصمة إيجابية لن تنسى.
*تلفزيون سوريا