لطالما سعت الأنظمة العربية المستبدة، والتي استولت في خطاباتها، دون سياساتها، على القضية الفلسطينية العادلة، إلى حرمان شعوبها من مجرد الاقتراب أو محاولة التعبير عن التزامها العفوي المستند إلى عوامل متشابكة بهذه القضية المركزية. إلى هذا الحرمان ومحاولة العزل يُضاف بعدٌ “لغويٌ” مهم يتمثل في الآتي: بما أن هذه الأنظمة وأبواقها الإعلامية صارت تستخدم تركيبات لغوية محددة لتكوين خطابها الكاذب عموماً، أضحى من الصعب على الإنسان الصادق أن يورد بعضاً من المفردات والمفاهيم التي تدخل في تركيب هذا الخطاب في حديثه الوجداني لما لذلك من وقع سلبي ارتبط بالكذب وبالتحايل وبالالتفاف على القضية. إنها مسألة معقدة وخطيرة تطرح سؤالاً مؤلماً وهو: هل على الناس تجنب التطرق إلى موضوع وطني قومي أو وطني كي لا يقعوا في فخ إعادة إنتاج الخطاب السلطوي المسموم؟
مع بدايات الثورة السلمية في سوريا وقبل تحولها إلى مقتلة، استخدمت السلطة وأعوانها ـ كما أبواقها الإعلامية الداخلية والخارجية ـ عبارة “إضاعة البوصلة”. وهم بهذا الاستخدام كانوا يبحثون عن تخوين المشاركين في الاحتجاجات أو المؤيدين لهم واتهامهم بإضاعة البوصلة التي من المفترض أن تدلهم على الجهة الغاصبة الوحيدة وهي خارجية اسمها إسرائيل. إذا المطلوب الابتعاد عن أية مطالبات داخلية بمزيد من الحقوق ومن الحريات ومن العدالة ومن الشفافية. فالبوصلة في الخطاب الاستبدادي تُشير فقط باتجاه العدو الكامن وراء الحدود التي تشهد هدوءاً لا مثيل له إلا في المنتجعات السياحية في جزر المالديف منذ اتفاقية فك الاشتباك سنة 1974. بالمقابل، اغتصبت القوى المؤيدة للاستبداد ـ كما سبق لها أن فعلت ـ القضية الفلسطينية في الإعلام الموجه إلى جموع الناس خارج الحدود والذين يبحثون عن مبررات مساعدة لهم في تبرئة ضمائرهم عن صمتهم إزاء جرائم القتل والتعذيب والتدمير المنهجي التي وقع تحت طائلها جزء كبير من السوريين. فصار مفهوم البوصلة وإضاعتها يتكرر أيضا على ألسنة بعض العرب من قوميين ومن يساريين كما سواهم من غير العرب من اليساريين البافلوفيين.
إضاعة البوصلة هو بدايةً فعلٌ أو “جرمٌ” جغرافي. إن أصاب من يمخر عباب البحر أو الصحاري، فقد كتب عليه أن يموت عطشاً أو غرقاً أو تعباً. أما في السياسة وفي الأخلاق وفي الدين، فضياع البوصلة يعني أن التوجه الذي اختاره الفرد أو تبنته الجماعة قد انحرف به أو بها عن الصراط المستقيم. وبالتالي، فهو سيؤدي بمن أضاع البوصلة إلى غياهب الخيانة أو الكفر أو الضياع الأخلاقي.
هل تشويه المفاهيم وإساءة استخدامها من قبل المتسلطين أو التكفيريين أو الفاسدين يجب أن يُخرج تلك المفاهيم من القاموس حتى ولو كانت ذات حمولة تعبيرية غنية؟ أكاد أن أعتقد بأن الوعي المرافق للاستخدام الصحيح يمكن أن يجنب المفهوم الوقوع في مياه الاستبداد الآسنة ويمكن أن يعيد له قيمته اللغوية والتعبيرية.
هذه الإمكانية يمكن توضيحها من خلال مثال عملي معاصر: فبعض السوريين المقيمين خارج البلاد بفعل الاضطهاد والنفي واللجوء، دخلوا في حالة من الإحباط الإنساني والعملي والوجودي. وترافق هذا مع استقالة النخب من لعب أي دور توعوي في إطار انصراف الجميع إلى محاولة الاستمرار بالحياة أو التكيف مع المصائر المستحدثة في بلاد المهجر. نتيجة لذلك، وقع بعضهم في مستنقعات الاعتقاد البدائي بضرورة الانفتاح على الغاصب المحتل الإسرائيلي ممثلاً ببعض رموزه الترويجية تطبيقا للقاعدة الشعبية الساذجة: “عدو عدوي هو صديقي” منطلقين بذلك من نقطة صفرية أو تحت صفرية تتبنى سردية عداوة ما بين نظام مستبد داخلي يقمع السوريين دون وازع من قانون دولي أو ما شابه، مع نظام محتل خارجي يستبد بالفلسطينيين دون وازع أيضاً من قانون دولي أو ما شابه. وقد قفز الإسرائيليون على نقطة الضعف هذه في محاولة لاختراق وعي جيل الشباب سعياً إلى البدء بعملية “تطبيع” ولو حتى على المستوى الافتراضي.
الطامة الكبرى لا تكمن في فتح حوارات هزيلة وهزلية مع مروجي السياسة الإسرائيلية والعقيدة الصهيونية المتطرفة فحسب، بل وأيضاً هي تتجسد في الضعف البنيوي للتكوين السياسي وللوعي الشامل بألف باء التاريخ والجغرافيا والأديان والعقائد السياسية والعلاقات الدولية والتوازنات الإقليمية.. الخ. أن “تحاور” عدوك وأنت متمكن من الأدوات علمياً وفي الممارسة، لربما يعطيك هذا تبريراً أو يمنحك فرصة لكي تتلقى دعماً لا غبار عليه ممن يرى أن المواجهة عبر الحوار هي جزء من المعركة، وبالمقابل، عند فقدان الأدوات أو ضعف تكوينها لأسباب يطول شرحها، ولكنها أساساً مرتبطة بتاريخ “تلقيم” سلطوي لمفردات القضية العادلة والذي نجم عنه ردود فعل سلبية وعكسية سعت إليها الأنظمة المستبدة الباحثة عن الإلهاء بالقضية دون الانتماء إليها.
سعى “قياديون” معارضون هامشيون إلى التقرّب من إسرائيل اعتقادا منهم بتسجيل بعض النقاط في عيون الغرب وقوبلوا بالازدراء الذي يليق بخطوتهم. ومن غير المنطقي أن يقع بعض الشباب في فخ الاعتقاد الساذج هذا وأن يُضيعوا البوصلة أو لمجاراة روح العصر، الـ GPS.
*تلفزيون سوريا