اختلفت الآراء بشكل واسع حول توصيف ما حصل يوم 25 من تموز الماضي في تونس. وقد حفلت الصحف والمواقع الإلكترونية المهتمة بالشأن السياسي عربياً ودولياً بالعديد من التحليلات التي حاولت أن تقف عند هذا الحدث وسعت لتغطيته. ولقد وقع شبه إجماع في المواقف الدولية الرسمية على ضرورة الحذر والتنبه إلى المخاطر التي تحيق بالعملية الديمقراطية التونسية التي بني عليها الكثير من الأمل عربيا ودولياً. ولم تحسم أية حكومة غربية، إلا في الكواليس ربما، أمرها مما حصل. وما مكالمة رئيس مكتب الأمن القومي الأميركي مع الرئيس التونسي والتي استغرقت ساعة كاملة إلا مؤشر على عدم التناول الأميركي للقضية وكأنها سحابة صيف عابرة.
اللافت عربياً هو احتفال الإعلام الذي يروج علناً وبإصرار منذ سنين لتيار الثورة المضادة ليبياً ومصرياً ويمنياً وسورياً بما وقع في تونس. وعلى الرغم من هذا الاحتفال والتغطية المستمرة التي قامت بها أقنية فضائية محسوبة على أصحاب وممولي هذا التوجه الواضح للعيان والذي كتبت فيه أبحاث غربية محكمة بعيداً عن أية معايير إقليمية تترجم خلافات عربية ـ عربية، فقد أصر البعض على رفض توصيف ما وقع بأنه “انقلاب” ولو أُضيفت له عبارة “دستوري” كمحاولة ترضية وتخفيف من غلواء الموقف.
وبعيداً عن الخوض في هذا الجدال التونسي، وبالاستغناء عن الملاحظة العلمية والقانونية للأحداث، وبالتخلي عن الاستشهاد بآراء أهم الدستوريين في تونس وفي العالم الحر، يقف المتابع المهتم بمسارات الثورات العربية المجهضة أو المشلولة أو التي تعرج، أمام حائط أصمّ من “الوطنية” التونسية الرافضة لما تسميه تدخلاً في شؤون البلاد والعباد. ويجب القول والاعتراف بأن هذا النوع من “الوطنية” لا يقتصر على مجموعة بعينها وإنما يتقاسم العرب خصوصاً هذا الشعور اللافظ لأي إبداء رأي من الآخر مهما كان على علم وعلى دراية وعلى اهتمام.
في قريب الزمان، وفي اجتماع ضم باحثين من جنسيات مختلفة، “كفر” باحث برتغالي مرموق كان له باع في ثورة القرنفل وكان ولم يزل مسخراً وقته لفائدة التجارب العربية وإمكانية إغنائها بمسارات التجربة البرتغالية في التحول الديمقراطي، مما يشير بالتالي إلى سنه المتقدم، كفر إذا واعتبر أن العملية التي حصلت في مصر سنة 2013، والتي تم خلالها عزل الرئيس المصري المنتخب المرحوم محمد مرسي من قبل الجيش، هي انقلاب عسكري صريح المعالم. فما كان من باحثة مصرية مرموقة، لكنها بعمر أولاده، أن تصدت له بصراخ لا طائل علمياً منه، وصارت تلوّح بيديها في كل الاتجاهات تعبيراً عن احتجاجها على ما ورد على لسانه وكادت أن ترميه بما أتيح لها من أوراق وكتب وأقلام على طاولة الاجتماع رافضة بعنف هذا التوصيف. لم تكتف بهذا الرفض الصارخ، بل أضافت عليه كل العبارات القاسية التي يمكن أن توجه لمن يتدخل فيما لا يعنيه. وكذلك، فهي تمنت عليه، وبسخرية لاذعة، أن يهتم بشؤون بلاده ويترك مصر “أم الدنيا” لأهلها العارفين بأمورها أكثر منه. سكت الرجل المسنّ والذي تنصت لنصائحه أغلب القيادات الأوروبية. ورغم شعوره الواضح بالإهانة، إلا أن لباقته دفعته للاعتذار المخفّف وإلى التمني المعظّم. ولم تمض أشهر على هذه الحادثة إلا وكانت الباحثة نفسها في موقع وصف ما حصل بالانقلاب دون أي اعتذار أو اعتراف بخطأ التقدير.
وفي العودة إلى الحالة التونسية، فقد ظهر منذ الأيام الأولى عنف الرفض لبعض المؤيدين لما حصل، وهم كثر، لأي رأي يُبديه آخرون. فبدايةً، إن كان المخالف في الرأي من نفس المنبت الوطني، أي تونسي الجنسية والانتماء والمكوث، فهو سيصبح إما “إخونجياً” إن كان متديناً أو هكذا بدا، أو أنه عميل للغرب إن كان ضعيف التدين أو هكذا بدا، أو أنه مُباعٌ لمالٍ من دولة عربية ما أسهل لصق التهم بها. وبما أن “الانقلاب” كما يسميه البعض، أو “الحركة التصحيحية (…)” كما يسميها البعض الآخر، قد أنحى بكل المسؤوليات في انهيار الاقتصاد وسوء الإدارة وفساد الدولة على حزب النهضة الإسلامي دوناً عن بقية الأحزاب والجماعات والإدارات والسياسات بقدرة قادر، فالتهمة الأسهل هي أن الناقد هو من الإسلاميين. لكن تكمن صعوبة القرار في هذا لمطلقي التهم جزافاً عندما يتطرق مصدر فرنسي للموضوع بنظرة متشككة بعض الشيء. وسرعان ما يجد الرافضون حجة حق يراد بها باطل، وهي الاتهام بالاستشراق وبالجهل بطبيعة المجتمعات العربية والتونسية خصوصاً. وقد سهلت اللغة الفرنسية الرسمية في الأشهر الأخيرة الطريق للوصم بما تيسر من توصيفات سلبية حيث تم تصنيف جُلّ من يعمل حول الدول العربية من الباحثين بالإسلاميين اليساريين.
الشعور الوطني هو إضافة إيجابية على انخراط الإنسان في الشأن العام، ولكن تأجيجه وتحويله إلى عنصرية علمية أو إقصائية حوارية فهو أمر يصبح من القيود المعتمدة بكثرة لدى من يفقد الحجة أو لمن يشعر ـ دون أن يعترف ـ بأن موقفه ضعيف.
مع هذا “الانقلاب” أو هذه “الحركة التصحيحية” كل التمنيات لتونس وشعبها بالخير.
*تلفزيون سوريا