في خطبة لرجل دين معروف في مدينة اعزاز شمالي سوريا، تعرّض من خلالها لعمل منظمات المجتمع المدني. وقد خصّ منها تلكم التي تُعنى بالمرأة، والتي تسعى إلى نشر التوعية بحقوقها التي لطالما انتهكت في سوريا إما عبر القانون أو من خلال الممارسات المجتمعية، بأشد الانتقاد.
وقد هاجم الشيخ نشاط هذه الجمعيات معتبراً بأنه يسعى إلى إدخال قيم غريبة عن المجتمع في محاولة لزعزعة “استقراره” والإطاحة بـ “قيمه”. إثر هذا الخطاب / الإدانة، ثارت الأقلام الليبرالية وكذا بعض المتنورين من المتدينين ضد محتواه. وقد أحالت أغلب الانتقادات هذا المحتوى إلى عملية إعادة إنتاج للفكر الرجعي الذي يُنمّط المرأة والذي يعتبر بأن كل مسعى إلى تحريرها من السلاسل القانونية والمجتمعية، وكل محاولة لتنويرها وتعريفها بحقوقها، وكل تجربة لتحقيق الحد الأدنى من المساواة بين المرأة وبين الرجل، ما هي بالمحصلة إلا من أعمال “الشياطين” الغربيين. وبالتالي، سيكون لها الوقع الأشد سلبية على المجتمع السوري كما يتصوّره ويسعى إلى ترسيخ عاداته وتقاليده، مهما كانت تمييزية ورجعية، بعض المتحكمين بالخطاب الديني السائد.
ردود الفعل السلبية والتي جرى من خلالها تفكيك هذا الخطاب ونقده شكّلت ظاهرة صحية في المشهد المدني السوري ما دامت لم تتجاوز التعبيرات المتعارف عليها حوارياً، وبما أنها في أغلبها لم تتجه أو تتبنَّ الكلام الهجومي العنيف، والذي تعجّ به وسائل التواصل الاجتماعي، والذي إن أُريد له أن يكون نقدياً، فهو يؤدي دوراً عكسياً ولا يخدم أية قضية إن تبنّى العنف اللفظي لأنه يقوم بإنتاج لغة تحريضية وإقصائية تحت عناوين حرية التعبير والتصدي للخطاب الرجعي. سرعان ما هدأت موجة الانتقاد على الرغم من تمسّك الشيخ ومريديه، وهم كُثر، بكل كلمة وردت في خطبته من دون وضع أي نقطة ماء في عصيرهم الكثيف للتخفيف منه. كما تبنته فئة واسعة من التيار المحافظ “المعتدل” والذي اعتبر أصحابه بأن من خالفه، ولو تهذيباً، فهو يُعتبر من المارقين وبئس المصير.
بعد هدوء العاصفة، أدلى مثقفون من أصحاب الفكر التنويري بدلوهم لانتقاد المشهد برمته أو محاولة تحليل الأسباب والدوافع. وبالتالي، فقد صار من الممكن تحويل حدث بعينه إلى موضوعة دراسة اجتماعية/ دينية يمكن لها في المطلق أن تفيد عملية التراكم البحثي لمحاولة فهم الظاهرة في المشهد السوري عموماً والمشهد الديني التقليدي خصوصاً. ومن الطرف المقابل، كتب بعض المدافعين عن هذا التوجه، الذي جرى اتهامه بالتطرف، بهدوء وانفتاح سعياً لتحويل صبغة التطرف التي أُلصقت بالخطبة إلى صبغة الاعتدال التي أُريد لها أن تلتصق باستمرار بالشيخ صاحب الخطبة.
لغة التشكيك بأهداف منظمات المجتمع المدني خصوصاً وبالعمل المدني عموماً لها مؤيدوها ودعاتها. هي لغة تُميّز خصوصاً الأنظمة الاستبدادية التي تخشى من نشاط المجتمع المدني كما من الوباء. وقد دلّـت التجارب، القريب منها والبعيد، على محاولات مستدامة من قبل الأنظمة البوليسية والعسكرية والاستبدادية (الدينية والسياسية) والشمولية اليسارية واليمينية، لتفكيك المجتمع المدني القائم أو القضاء عليه من جهة، والقيام بمأسسة مجتمع مدني سلطوي خاضع لسطوتها بحيث تمتص من خلاله بعض الألق المجتمعي الساعي إلى التنظّم والمبادرة من جهة، ومن جهة أخرى، ترسل رسائل مشوهة إلى مجتمع دولي يدّعي دعم الحريات ولكنه في غالب الأحيان، ومن ضمن رؤيته المساندة للاستبداد الخادم لمصالحه، يرتضي بمجتمع مدني وهمي أو شديد الحكومية أو خاضع تمام لسطوة الحزب الواحد الحاكم وأجهزته القمعية، خصوصاً في الدولة التي هي في طور النمو.
وقد قامت بعض الدول المتقدمة في مجال قمع الحريات وإجهاض المبادرات المدنية بنسخ تجارب قمعية من دول شمولية أكثر باعاً منها في استئصال المجتمعات المدنية وابتدعت ما يسمى بـ “منظمات الديمقراطية الشعبية” لتأطير كل مناحي الحياة المجتمعية والمهنية. فصارت هذه “المنظمات” التي أريد منها أن تحل بديلاً عن منظمات المجتمع المدني، أطر أمنية لمراقبة أشد بؤساً والتصاقاً بكافة فئات المجتمع المهيمن عليه. كما هي عليه الحال في سوريا مع طلائع البعث وشبيبة الثورة واتحاد الطلبة ومختلف النقابات المهنية.
أما الأصوات التي تتقدّم صفوف بعض الأفراد والجماعات التي تدّعي وصلاً بالديمقراطية المطلقة والتي مناطٌ بها نظرياً أن تدافع عن المجتمع المدني بكل مشاربه، فيبدو أن البعض منها قد تشرّب من ثقافة المؤامرة والإقصاء. حيث نراها تميل إلى التشكيك في مصادر تمويل المجتمع المدني، خصوصاً إن كانت رسالته ومهامه لا توائم إيديولوجيتها، أو كانت قد أُبعدت بشكل متعمّد أو غير متعمّد عن الإفادة من نشاطاته، وبالتالي عن الاستفادة المالية المباشرة من وظائفه أو من تمويله. وعلى الرغم من ضرورة أن تسود الشفافية عميلة تمويل المجتمع المدني كما ضرورة أن تسود المعايير الإدارية الدقيقة في عملية التوظيف، إلا أن مجرد الظن ببعض الخلل لا يمنح التهجم الذي يصل إلى حدود التخوين صك البراءة.
إذاً، ثقافة المؤامرة لا تقتصر على من نختلف معهم فكرياً، ومن الأجدر أن ينظر الجمل إلى حدبته.
*تلفزيون سوريا