بعد انهيار الاتحاد السوفييتي سنة 1991، وبدء تفكّك القطب الأوروبي الشرقي، وانضمام عدد من دوله إلى الاتحاد الأوروبي، برزت مواقف متطرّفة في تأييد السياسة الإسرائيلية من حكومات هذه الدول في إطار السياسة الخارجية الأوروبية، تتناقض حتى مع السياسة التقليدية الأوروبية التي تعترف بحقوق الشعب الفلسطيني نظرياً، وتندد بالاستيطان صوتياً، وتُحجم عن اتخاذ أيّ خطوة دبلوماسياً. ويكاد المراقب يشعر بسيطرة اليمين الإسرائيلي على القرارات الخارجية لهذه الدول، حديثة العهد بالديمقراطية.
توجّهٌ دفع حتى بدول يتميز قادتها بمعاداة مموهة للسامية، كما المجر وبولندا، لتأييد السياسات الإسرائيلية في المحافل الأوروبية، وإعاقة أيّ قرار إدانة يمكن تبنّيه تجاه السياسات الاستيطانية الإسرائيلية والعمليات العسكرية تجاه قطاع غزة. وحين السعي إلى فهم طبيعة هذا التوجه وحيثياته، يتبيّن بشكل شبه قاطع أنّ استغلال الأنظمة التسلّطية التي كانت تحكم هذه المجتمعات قضايا تحرّر الشعوب، ومنها القضية الفلسطينية، قد أدّى إلى نفور عام من هذه القضايا من دون السعي البتّة إلى التعرف عليها، وعلى مشروعيتها من العامة. وبالتالي، كلّ ما اقترن بسياسات النظام السابق ومواقفه يُصبح موضوعاً للتهميش، في أحسن الأحوال، أو الرفض والإقصاء في جُلّها. فكما بعض الأنظمة العربية، كانت هذه الدول تتبجّح بوقوفها إلى جانب قضايا الشعوب الساعية إلى التحرّر من الاستعمار أو الاحتلال، لكي تغطي على سوء الأداء وفساد الإدارة وقمع الحريات وعدم عدالة توزيع الناتج القومي.
وفي إيران، على هامش الثورة الخضراء التي اندلعت سنة 2009 وقُمعت بالحديد وبالنار كما هي عادة الأنظمة التسلطية، برزت شعاراتٌ مطلبيةٌ مرتبطة بالوضع الداخلي الإيراني الذي يعاني من انعدام الحريات، ومن أزمة اقتصادية بنيوية، ليست العقوبات الغربية وحدها سببها، إنّما أيضاً وأساساً الفساد المنهجي وسوء الإدارة، كما الاستغلال الاقتصادي والانتهاك البشري الذي تمارسه بعض القوى المهيمنة. وفي إطار التركيز على المسألة الداخلية، تطرّقت الشعارات، في ما تطرقت إليه، إلى انخراط الدولة في صراعات خارجية مكلفة، لا تخدم المصالح الوطنية لعامة الشعب. وتناول المتظاهرون فلسطين ولبنان بوصفهما مشهدين إقليميين بارزين، بدا لجموع المحتجين أنّ ضخ الأموال في حيثياتهما يُضيّع على الشعب فرص التنمية والازدهار.
خلطٌ واضحٌ بين قضيتين لا يجمع بينهما سوى ادّعاء الإعلام الرسمي الإيراني أنّ تدخل الدولة فيهما هو لصالح مقاومة المشروع الصهيوني. وفي حين تدّعي إيران، وأذرعها الإقليمية، خوض مواجهة مع العدو الإسرائيلي المحتل، بدعمها النظري أو المحدود لحركة “حماس” وبتصريحات نارية تدّعي السعي إلى رمي إسرائيل في البحر، تحصل دائماً إسرائيل إثرها على أموال دعم إضافية لتعزيز قدراتها الدفاعية، تنفذ مخطط هيمنة ذا أبعادٍ متشابكةٍ في لبنان وسورية والعراق واليمن. وبالتالي، سيدمج الرفض الشعبي بين الملفّين بعيداً عن وعي الجموع إلى شرعية المطالب الفلسطينية والمعرفة الوثيقة بأنّ المقاتلين باسم القدس الشريف الذين ينتهكون حيوات السوريين واللبنانيين واليمنيين هم أبعد ما يكونون، جغرافياً ورمزياً ومناقبياً، عن السعي الحقيقي إلى تحرير القدس المحتلة، فالتحجج الرسمي بدعم الحقوق الفلسطينية لتبرير بعض السياسات الداخلية ارتبط في الذهن الجمعي باستغلال موارد البلاد في حروبٍ خارجيةٍ لا ناقة للإيرانيين فيها ولا جمل.
في أعقاب عملية التطبيع بين المغرب وإسرائيل، خرجت مقالات في الغرب للإشارة الى “سعادة” الجمعيات الأمازيغية المغربية بالحدث، مستندة، بحسب زعمها، إلى تضامن جماعات إثنية تشعر بأنها مهدّدة من بعض العرب، مع إشارة إلى وجود مقابل مشرقي لهذا الميل المغاربي نحو التعاون والانفتاح الودي على إسرائيل، يتمثل في العلاقات التي نسجتها قياداتٌ كردية مع دولة الاحتلال. وفي تحقيق لصحيفة لوموند الفرنسية في 2 إبريل/ نيسان الجاري، ورد شعار قيل إنه رُدِّدَ في بعض التجمعات الأمازيغية، وهو “تازة قبل غزة” للإشارة إلى أولوية المسألة الأمازيغية على التضامن مع القضية الفلسطينية. كما دعت جمعية أمازيغية إلى اعتبار تاريخ العاشر من ديسمبر/ كانون الأول، وهو يوم الإعلان عن التطبيع، عيداً وطنياً يستحق الاحتفال. ويوضح التحقيق أنّ نخباً أمازيغية تعتبر إسرائيل نموذجاً لجهة التمكّن من استعادة “أرض الأجداد”. وفي هذا الإطار، يعتبر أحد أبرز نشطاء هذه الجمعيات أنّ الأمازيغ، منذ الاستعمار، تعرّضوا للتهميش والإقصاء، ولم يتمكّنوا من استعادة مكانتهم على العكس من اليهود الذين تعرّضوا للمعاملة نفسها، لكنّ مآلهم اليوم اختلف. خطابٌ يُثلج صدر من يسعى إلى العثور على صدى شعبي للتطبيع، إلّا أنّ الواقع مختلف بشدة، فهذه الجمعيات تمثل نخباً متأزمة مع هويتها، وهي لا تمثل عموم الشارع الأمازيغي الذي ثار مطالباً بحقوقه الأساسية، ولم يدعُ في أيٍّ من تظاهراته إلى التخلي عن قضية فلسطين، فمن يسعَ إلى الحرية والكرامة والاعتراف الثقافي والمواطني، يعرف، تمام المعرفة، أنّه لا يمكن إلّا أن يتضامن مع كلّ قضايا التحرّر والحرية من الاستعمار والاستبداد والاستيطان.
إن استغلت الأنظمة التسلطية القضية الفلسطينية من دون وجه حق، وأفقرت شعوبها وحرمتها من الحرية ومن العدالة باسمها، فهذا يمكن أن يؤثر سلباً على تضامن الشعوب مع القضية بشكل جزئي للغاية وقصير الأمد، إذ سرعان ما تتضح الصورة من خلال الوعي والتأطير السياسي الصحيح. كما يمكن لهذا التأثير السلبي أن يزول بزوال أسبابه. وفي النهاية، تبقى التسلطية المسؤولة بالكامل عن انحراف البوصلة. أما أصحاب ردّ الفعل، فمسؤوليتهم جزئية ومؤقتة.
*العربي الجديد