بعد المجهودات التي بذلت خلال الثمانينيات بهدف إرساء أسس وتصورات للدراسات السردية المغربية، ساهمت كلية الآداب، خاصة شعب اللغة العربية في تزايد الاهتمام بالتحليل السردي، لدى أجيال من الباحثين الذين تخرجوا من هذه الكليات من خلال الرسائل والأطاريح، التي كانت تناقش في إطارها، والتي تعرف طريقها إلى النشر. ويمكننا أن نقدم هنا بعض الاستثناءات، مثل أعمال صدوق نور الدين ومحمد معتصم، وغيرهما التي لم تقدم لنيل شهادة جامعية. كما كان لإقدام المجلات العربية ودور النشر على طبع الدراسات السردية، وحصول الكثير من الباحثين على جوائز عربية في مجال النقد السردي، أثره الكبير في التشجيع على مواصلة البحث في السرد القديم والحديث، وصارت بذلك للدراسات السردية المغربية، مكانة خاصة ضمن الدراسات السردية العربية.
فكرت في أواخر التسعينيات وبداية الألفية الجديدة، إثر الدورة التكوينية التي احتضنتها مدينة مراكش، بدعم من مؤسسة أديناور الألمانية، عندما كانت لها شراكة مع كلية الآداب في الرباط، أن نعمل على تأسيس مركز عربي للدراسات السردية، بعد النجاح الذي حققته الدورة، وما تلاها من دورات، وأبانت أن بالإمكان الاستفادة من مثل هذه الدورات لتحقيق أعمال قابلة للتطوير مع طلبة الدكتوراه، التي توجت بإنجاز أطاريح طبع أغلبها، مثل أعمال سعاد مسكين، ولبيبة خمار، وبشرى قانت وغيرهن. كما أنني فكرت مرارا في إنجاز قراءات نقدية للدراسات السردية التي أنجزها باحثون من أجيال كثيرة، بهدف إثارة النقاش والحوار حول ما ينجز، لكن كثرة النوافذ، التي كنت أشتغل عليها في مشروعي السردي، وهي تتصل بما فيه من قديم وحديث وشعبي ورقمي، من جهة، حال دون ذلك. كما أن اعتماد نظام الأمد (إجازة، ماجستير، دكتوراه) وعدم توفير الشروط الضرورية للبحث الجامعي، وإفراغه من محتواه، الذي كنا نأمل فيه، جعل بنيات البحث بالطريقة التي شكلت بها غير ذات جدوى، جعلني أؤجل التفكير في ذلك من جهة أخرى.
تتزايد الرسائل والأطاريح والكتب التي ينجزها باحثون مغاربة في مجال الدراسات السردية، ولبعضها قيمة خاصة. وفي غضون حوالي العقدين من الزمن تراكمت الدراسات والأبحاث بشكل لافت للانتباه، ولذلك بات من الضروري تجاوز الوضع الذي هيمن منذ الثمانينيات إلى الآن، والذي يمكن تلخيصه في كلمة واحدة: ليعمل كل واحد كما يشاء، بلا حوار ولا نقاش، فجزيرة السرد «تجمعنا» وعلى كل واحد منا أن «يفرض» لنفسه موقعا فيها، ولا يهمه ما يفعل الآخرون، لم نتساءل قط عن آليات للتفكير في كيفية التخطيط للوصول إلى تلك الجزيرة، ولا في خريطتها، ولا في ما يمكننا أن نعمل فيها لتكون فضاء مريحا للتفكير والاجتهاد الجماعي.
فهناك من مضى إليها عبر قوارب الموت، أو سابحا، أو على قارب متواضع، أو بطائرة دون طيار. ومنهم من وصل، ومنهم من ينتظر. وبعد حط الرحال، ثمة من تفيأ ظل شجرة، أو بدأ في حفر، أو تنقيب، تعددت السبل و»السرد» واحد. صارت جزيرة السرد المغربية، مثل نظيرتها العربية لا تختلف عن مدننا، أو فضائنا الشبكي بلا خريطة، أو تخطيط محكم.
تتأسس باطراد جمعيات أو مختبرات أو مراكز للسرد والسرديات والسيميائيات والرقميات في مختلف البلاد العربية. تصدر بين الفينة والأخرى مجلات تهتم بالسرد، ولا شيء غير السرد، ويختلط الحابل بالنابل، وإذا بكل شيء هو سرد وسرديات؟ وحين نتأمل هذه «الجماعات» المختلفة في طول الوطن العربي وعرضه، سواء كانت منتظمة في نطاق مؤسسة جامعية أو خارجها، نجدها تضم أفرادا لا يقرأ بعضهم بعضا، ولا يتناقشون في ما بينهم حول «جزيرتهم» السردية، ولا هم لهم في كيفية تنظيمها أو تنظيف بيئتها. قد نجد بعضهم يخفي أحاسيسه الحقيقية حول ما ينجزه غيره، لكنه مستعد للمشاركة في التكريمات التي صارت إعلانا لـ»ثقافة الاعتراف» وصارت التنويهات المتبادلة، عبر الوسائط الجماهيرية عنوانا لحقبة تقوم على المهادنة السلبية. فلا نقاش عميق، ولا حوار للتطوير والتغيير.
لا مراء في أن في الجزيرة أعمالا جيدة، لكنها تتجاور مع أخريات لا قيمة لها. وحين صارت الدراسات الأدبية محكومة بالترقيات، ونيل الجوائز أصبحت مجالا للتسابق والتسرع والتبسيط. من ميزات جيل الثمانينيات هو أنه لم يكن يفكر في الجوائز، ولا في الترقية، ولا في الحصول على مكافأة، وهو يشتغل بالسرد، لذلك كانت الدراسات والترجمات مؤسسة لحقبة جديدة في الدراسات الأدبية المغربية والعربية. لكن تلك الحقبة لم يتم نقاش منجزاتها، والعمل على تطويرها إلا على مستوى الكم، لكن دون كيف. ولعل السبب الجوهري في ذلك يكمن في أننا نفكر في السرد، كما كان السابقون يفكرون في الأدب، رغم تبدل الموضوع والزمن، فكانت النتيجة استعادة تاريخ من ممارسة الدراسة الأدبية دون تدبير ولا تفكير. إن الفرق الجوهري بين دراسة الأدب والسرد يكمن في كون الأخير تشكّل في نطاق العلم وليس النقد، ودون وضع هذا الفرق في الاعتبار سيظل العمل الفردي سائدا، وسيظل غياب العمل الجماعي قائما، والحوار النقدي مفقودا.
*القدس العربي