تلجأ بعض المؤسسات الثقافية، وبعض المجلات العربية إلى استكتاب مجموعة من الباحثين والدارسين للمساهمة في الكتابة في موضوع محدد، وفي آجال معينة، وبمعايير خاصة قصد طبع المواد المجموعة في كتاب، أو في عدد خاص من المجلة. في المقابل نجد نوعا آخر من الاستكتاب المفتوح، الذي تقترح فيه مؤسسة أكاديمية عربية موضوعا معينا، وبمحاور محددة، ويتم الإعلان عنه في منابر متعددة، ويرسل إلى العديد من الكليات في الوطن العربي طلبا للمشاركة.
في الاستكتاب المقيد يكون العدد محدودا جدا، وغالبا ما يتم نشر مواد كل المستكتبين، لأن الاستكتاب انبنى على مشاورات، أو على دراية بالموضوع والمنشغلين به من لدن الجهة المختصة. في الحالة الثانية يتم انتقاء ما تراه اللجان المحكِّمة التي توضع لمراجعة الكثير من الدراسات التي تصل إليها، وأغلبها يكون هدفه المشاركة في الندوة، أو النشر لغاية محددة هي «الترقية» الإدارية. تقبل بعض الدراسات، بشروط أو بدون شروط، أو بالرفض. وبحسب نوعية الكلية، أو النشاط الثقافي، قد تقبل الكثير من الأعمال ضمانا لنجاح الملتقى، أو ملء صفحات المجلة، فتكون المشاركات عادة أكثر من التي نجدها في الاستكتاب المقيد.
لا أريد التمييز بين النوعين من الاستكتاب، أو المفاضلة بينهما، فهما معا ضروريان للإسهام في التحفيز على البحث والكتابة والتأليف، لكن واقع الحال يبين لنا، عربيا، أن الاستكتاب المقيد، بوجه خاص، يظل أكثر نجاحا وإثارة للاهتمام والتلقي، مما نجده في منشورات الكليات ومجلاتها، إلا في استثناءات نادرة جدا. وأرجع السبب في ذلك إلى كون أنشطة بعض الكليات والشُعب أو الأقسام، تجد نفسها مفتوحة بشكل لا يسمح لها بممارسة الانتقاء وفق معايير علمية دقيقة، لكون أغلب الموضوعات المقترحة عامة وفضفاضة، وتتسع لأشكال لا حصر لها من المقاربات، لأسباب كثيرة لا يتعلق أغلبها بالبحث العلمي. لا يعني هذا أن كل المواد المقدمة في كتاب نشر، وفق الاستكتاب المقيد في المستوى المراهن عليه من قبل اللجنة المختصة. فقد نجد كتابات عادية جدا، وأحيانا لا ترقى إلى بعض ما يمكن أن يتضمنه ما ينشر وفق الدعوة إلى الاستكتاب المفتوح.
إن السؤال الذي يفرض نفسه علينا في هذا النطاق هو: ما قيمة هذه الأعمال الناجمة عن الاستكتاب في الحالتين معا، إذا لم يعقبها نقاش أو حوار، يمكن أن تتولد عنه استكتابات أخرى تعمق الموضوع نفسه، أو تفتح منافذ لتوسيعه وتدقيقه؟ أرى أن الفائدة الكبرى التي يجنيها المستكتَب تكمن في كونه يراكم مواد يمكن أن يجمعها بعد ذلك في كتاب، متى كان للموضوع المقترح صلة بمشروعه البحثي. أما ما خلا ذلك فمتروك للقراء ومدى قدرتهم على التمييز في الملفات الخاصة، أو الكتب التي تدور حول موضوع واحد. قد تصبح مواد هذه المؤلفات استشهادات يعزز بها بعض الباحثين مقالاتهم أو دراساتهم، أو ينقضها على أساس رؤية خاصة لديه. لكن ما يتصل بالموضوع العام، الذي قدم للاستكتاب فلا نتقدم في فهمه، أو تعميق تصورنا له، وبذلك لا يختلف الكتاب المستكتب عن نظيره الذي يؤلفه صاحبه، مقترحا فيه رؤية خاصة لموضوع محدد. فكيف يمكن للدراسة الأدبية أن تتطور لدينا إذا كان هذا هو واقع الحال؟ وكيف نفسر هذه الظاهرة ونتائجها غير المثمرة على واقع الدراسات الأدبية العربية المعاصرة؟
سوف لا أتعب من تكرار جواب قدمته منذ بداية الثمانينيات، وسأظل أكرره، وأعيده أبدا، وهو: إن أغلب المشتغلين بالدراسة الأدبية في الوطن العربي، والذين نسميهم «النقاد»، سواء كانوا أكاديميين، أو غيرهم، وسواء كانوا نقادا «أدبيين»، أو «ثقافيين»، هم مثقفون وليسوا علماء. وما دمنا لم نفصل الفهم، ونفرق بين الناقد الأدبي، والعالم الأدبي، فلا يمكننا أن ننتج معرفة أدبية، أو فكرا أدبيا، ولا يمكننا أن نطور الدراسة الأدبية العربية. قد نجد الكثير من المؤلفات الأدبية في موضوع واحد، ولكن لا رابط بينها إلا في العام، والعادي والجاهز.
إن لغياب الاختصاص الدقيق، وغياب المشروع الذي يشتغل عليه الباحث العربي، دخلا في تعثر الدراسات الأدبية وعدم قدرتها على التطور الذي يجعلها تراكم تصورات منفتحة على الزمن. وحين نقارن واقع المجلات، والكتب الجماعية الغربية في مختلف الاختصاصات، نجدها تسهم في تعميق النقاش، وليس النقض، كما هو شائع عندنا. إن الاستكتاب موجه للمختصين الذين يطرحون الإشكالات، ويأتون بالجديد، وليس الذين يكررون ما ينتجون، بلا أفق للتطوير أو التفكير. أتذكر كيف كنا في الثمانينيات نتسابق على حجز نسخنا من مجلة «تواصلات»، و»بويطيقا»، و»أدب»، و»اللغة والأدب»، ومع شابه هذا من المجلات التي ما زال أغلبها متواصل الصدور. مَن مِن الباحثين العرب يعود الآن إليها ويواكب جديدها؟
ما كان يعطي لهذه المجلات قوتها ومكانتها، هو مستواها العلمي الذي تقــــــدم فيه المشــــاريع القابلة للتطوير. وكم من أعداد هذه المجلات باتت كتبا يعاد طبعها بين الفينة والأخرى إلى الآن رغم مرور عقود على صدورها، ولا تزال لها راهنيتها وقيمتها العلمية.
*المصدر: القدس العربي