سعيد خطيبي: هل سوف نُعلن موت الكتاب في الجزائر؟

0

هل يُمكن أن نتخيل مباراة كرة قدم بدون ملعب؟ طبعاً لا. الملعب أولاً قبل الفريقين وقبل الجمهور. هل يُمكن أن نتخيل متعبدين بدون معبد؟ طبعاً لا. المعبد أولاً، ثم سيعرف المتعبدون الطريق إلى ربهم وممارسة شعائرهم. لكن يسهل علينا، في الجزائر، أن نتخيل أدباً وسوقاً للكتاب، بدون مكتبات.
كل مرة نسمع أصواتاً تتصاعد، تشتكي من تناقص القراء، وتعسّر تسويق الكتاب، هناك من يروج خطأ أن السبب في «إغارة» القراء على ميدان الكتابة طلباً للشهرة، وهناك من يتهم الجزائريين جزافاً بمعاداة الكتاب، ونتجنب طرح الإشكالية بصيغة أوضح: أين من المفترض أن يلتقي القراء؟ إنهم مثل جمهور الكرة، أو مثل المتعبدين، يلتقون في «ملعبهم» أو «معبدهم»، الذي يتمثل في المكتبات.
في بلدان تحترم تاريخها وثقافتها تتزايد أعداد المكتبات بتزايد السكان، كل مرة نسمع عن إقامة احتفالية بمناسبة افتتاح مكتبة، فتدشين مكتبة لا يقل شأنا عن تدشين خط ميترو أو مستوصف أو مدرسة أو حديقة عامة، بينما في الجزائر نُطالع منذ سنوات أخباراً عن غلق مكتبات. صارت تلك الأمكنة نادرة في المدن الكبرى والداخلية على حد سواء. ما تبقى من مكتبات ليس ـ في الأصل ـ سوى تجارة مُتوارثة، أو مغامرة غير محسوبة العواقب، ولم نُصادف رجل أعمال يفكر في افتتاح فضاء للكتاب، ولا الحكومة وضعت المكتبات ضمن خياراتها. لا خريطة طريق تُبين خطط ترويج الكتاب. في ظل هذه الحالة التي لا تنبئ سوى بسوء، كيف يحق لنا أن نأمل خيراً بسوق الكتاب؟ هل ما زلنا نتطلع إلى صناعة أدب، لا جمهور له ولا مكتبات؟ إن ما نعيشه اليوم، في حال استمراره، يعجل بالتفكير في دنو نهاية عصر الكتاب.
يُفترض أن افتتاح مكتبة أو غلقها ليس حدثاً معزولاً، بل يدخل ضمن مخطط السياسة العامة لأي بلد، لكن يحدث العكس في الجزائر، حيث أن افتتاح مكتبة أو غلقها ليس أكثر من خبر عابر، لا يهم جرائد ولا وكالات أنباء، بل يمر عبر الألسنة في جلسات النميمة أو المسامرة، مع أن المكتبيين يتحملون، في بعض الأحيان، المسؤولية. المكتبات ليست بقالات، لا تنتظر جمهوراً يتدفق عليها بالصدفة، بل تصنع جمهورها، من خلال ابتكار نوادي قراءة، أو إحياء فعاليات، مع ذلك درجنا على مكتبات جزائرية غائبة عن الفعل الثقافي، إلا ما ندر منها، تفتح أبوابها كل صباح، وفي المساء تغتم من قلة القراء. لكن هذا الذي يحصل لا يبرر تخاذلنا وتخلينا عنها، رغم ما تستفيد منه المكتبات نظرياً من امتيازات، في غياب منافسة لها، مع انعدام سوق الكتاب الرقمي في الجزائر، وعدم وجود تجارة إلكترونية، هذان العاملان كان يمكن أن يلعبا لصالحها، فإنها تُقاوم آلة من القوانين البيروقراطية، تعقيدات استيراد الكتاب، الضرائب، وبالأخص ندرة شركات توزيع الكتاب في البلد، ففي الجزائر وحدها يمكن أن يصدر كتاب في العاصمة ولا يتاح خارجها، هذا ما يجعلنا نستفسر عن أسباب استقالة مؤسسات حكومية عن دورها، ما يضعنا اليوم إزاء واقع في غاية الصعوبة، حيث أن الكتاب موجود بينما لا سوق له ولا أمكنة تعرضه، بالتالي لا قراء له ولا جمهور.

قبل حوالي عشرين سنة من الآن، زاد نشاط ما بات يُطلق عليه «الوكالة الوطنية لتشغيل الشباب» (أو أونساج اختصاراً)، وهي وكالة أسندت لها مهمة تقديم قروض مالية للشباب الراغبين في إنشاء مشاريع اقتصادية مصغرة، وقد وصل عدد الأشخاص الذين انخرطوا فيها، سواء استفادوا من قروض، أو انضموا إلى المشاريع التي أنشئت، حوالي 200 ألف مستفيد، ما يبين حيوية هذه الوكالة، لكن في الواقع، لا بد أن نتوقف طويلاً ونتمعن في نوعية المشاريع التي دعمتها هذه الوكالة، سوف يصعب أن نجد بين تلك المشاريع التي مُنحت لها قروض، مكتبة ولا أي مشروع ثقافي آخر. لماذا لم توصِ الحكومة بإنشاء مكتبات ضمن المشاريع التي دعمتها؟ لأن المكتبات ليست مؤسسات ربحية؟ لأن المتقدمين إلى الوكالة لم يفكروا فيها؟ أكثر من عشرين سنة والحكومة تدعم مشاريع اقتصادية للشباب، ولم يخطر في بال أحد أن البلد بأكمله يفتقر إلى مكتبات!
من المُفارقات أن الجامعة الجزائرية تُخرج كل عام مئات المتخصصين في ما يطلق عليه «علم المكتبات» أو «اقتصاد المكتبات»، لكن لا أثر لهم في الواقع. أين يذهبون بعد تخرجهم؟ في الغالب يتجهون إلى العمل في مكتبات عامة، في الجامعات، أو ما يُسمى «مكتبات عمومية»، وهي منشآت تدخل تحت وصاية وزارة الثقافة، تبرر بها اهتمامها بسوق الكتاب، مع العلم أن تلك المكتبات العمومية لا تتوافر على أحدث الكتب، كما أنها تخضع للوصاية في اقتناء حاجياتها من العناوين.
والضحية في هذه العملية هم الناشرون المستقلون والقارئ بالدرجة الأولى، يسمع ويطالع أخباراً عن كتب جديدة صدرت، مع ذلك لا قدرة له على الوصول إليها.
المكتبات ليست بحاجة إلى وصاية، فقد اجتاز الكتاب في الجزائر مراحل قاسية في ما سبق، لكن ليس يصعب على الحكومة أن تقوم بدور ولو صغير في سوق الكتاب، أن توفر على الأقل دورات تكوين للمكتبيين، مثل دورات التكوين في المسرح أو السينما، لكننا لم نسمع عن مبادرة في هذا الاتجاه، وغالبية دورات التكوين التي يستفيد منها ما تبقى من مكتبيين تأتي من الخارج.
يجب أن لا نغفل أن الغالبية من أصحاب المكتبات لا تكوين لهم في هذا المجال، يصلون إلى المكتبات من منطق بيع وشراء، لا من منطق ثقافة مكتبية أو سياسة تسويق محكمة. وجاءت الجائحة الأخيرة كي تزيد من مشقة المكتبات في الجزائر، المبيعات المنخفضة زادت انخفاضا، معرض الكتاب الدولي ألغي لأسباب صحية، إنها واحدة من أسوأ سنوات سوق الكتاب. هل بالإمكان إنقاذه؟ أم نكتفي بدور المشاهد ونحن نرى المكتبيين يختنقون!

القدس العربي

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here