سعيد خطيبي: فضل «الرواية الأولى» على سائر الروايات الأخرى

0

كما جرت العادة، بدأت إصدارات الموسم الأدبي الجديد في فرنسا، المرتقب شهر سبتمبر/أيلول من كل عام، في الظهور، وشرع الناشرون، كما هو دأبهم دائماً، في إرسال النسخ الأولى من الروايات إلى نقاد وصحافيين، بل إن كل دار نشر توظف مسؤولاً عن الاتصال ـ وهو تقليد غائب عربياً ـ يضطلع بالتواصل مع الإعلام، على أمل أن تلقى تلك الإصدارات اهتماماً، مقالاً أو تعليقاً أو تجاوباً مهما كان شكله، ومن بين الأعمال التي نصادفها كل سنة، هي الروايات الأولى، حيث لا تكاد تستغني دار نشر فرنسية عن رهانها على كاتب جديد، ينشر عملاً روائياً للمرة الأولى، بل إن الناشرين يعمدون إلى تزيين أغلفة «الروايات الأولى» بشريط أحمر يؤكد أنها باكورة صاحبها، كما إن جوائز أدبية استوت شهرتها، في السنين الأخيرة، لا تعتمد في قوائمها إلا على بواكير الكتّاب، بغض النظر عن سنهم، فضلاً على أن جائزة غونكور المرموقة تخصص فرعاً سنوياً في تكريم الرواية الأولى، فإن يصدر كاتب عمله الأولى فذلك حدث يلفت الانتباه، في فرنسا، على النقيض مما نعرفه عربياً، فالكثير من الكتاب المكرسين يتبرؤون من بواكيرهم التي أصدروها في سنوات الشباب. عدد لا بأس به من الكتاب العرب تكتظ سيرهم بعناوين أعمالهم، لكنهم يغفلون عمداً عن ذكر روايتهم الأولى، خجلاً أم تنكراً لها؟ في الغالب فإن الرواية الأولى للكاتب العربي تختفي من الرفوف، مع السنين، وقد يُبادر إلى إعادة طبع أعمال أخرى له، متجنباً إعادة طبع الرواية الأولى، في هذا التضاد بين وسط فرنسي يرفع من شأن الرواية الأولى ووسط عربي يدفنها دون حرج، يهمنا أن نفهم علاقة الكاتب بباكورته، لماذا يرفع الغربي من شأنها ويخفيها العربي؟
حين نطالع صحفاً أو مجلات أدبية فرنسية، نجد أنها تتعامل مع «الرواية الأولى» لكاتب ما بوصفها نوعاً أدبياً مستقلاً، يتعاطون معها بمنطق يختلف عن تعاملهم مع روايات كاتب مكرس، بينما عربياً، نشعر باضطراب وتململ في تعامل النقد الصحافي مع الروايات الأولى، فحين يصل كاتب جديد يحمل نصه الأول المطبوع تتجه إليه الأنظار كما لو أنه غريب في بيت لم يُدع إليه، تسلط عليه نظرات توجس وريبة، نادراً ما يتم التعامل بجدية مع باكورته، في الغالب يتوجب عليه أن ينتظر صدور عمله الثاني أو الثالث كي ينال حظاً من المعاملة النقدية السليمة، لا بد أن الكثير من الكتاب العرب مرّوا في هذا الطريق، أحسوا بأنهم يمدون أرجلهم إلى أرض وعرة، لا أحد من النقاد يرحب بهم ويجادل نصهم الأول، بل جلهم يضعونهم في مرتبة دنيا من باب أنهم كتّاب جدد، ما يربك المؤلف ويعزز شعوره بالنقص، ويحتم عليه تحمل مشاعر من الخجل ومن نكران الذات إزاء عمله المطبوع الأول، وينتظر أن يصل المحطة المقبلة، وأن يبلغ روايته الثانية كي تتاح له مطالعة مقال عن عمله.

في فرنسا، حيث يصدر كل شهر سبتمبر ما يقارب 300 رواية جديدة، فإن ما يجاور 20% منها إنما رواية أولى لصاحبها، خطة نشر «الرواية الأولى» تدخل في اقتصاد الكتاب هناك، لها بريقها وقدرتها على استقطاب القراء أيضاً، بينما عربياً من النادر ما يجازف قارئ إلى شراء رواية أولى لكاتب. على غرار الناقد فالقارئ أيضاً لا يثق سوى في المكرس، في الكتّاب الذين قطعوا الطريق من محطتهم الأولى إلى الثانية بسلاسة، اقتناء باكورة كاتب يعد مجازفة في ذهنية الناس، ليس لأن نص الرواية لن يروقهم، بل لأنهم لم يتعودوا على الثقة، فما هو جديد، ويحصل ذلك مع سلع أخرى، فالعربي يقتني أدواته الكهربائية ـ مثلاً ـ من ماركات صناعية مكرسة، لا يخاطر بشراء شيء من ماركة حديثة، مهما علت جودتها وقل ثمنها، لا يشتري غذاءه من علامات صناعية جديدة، بل يستأنس بالعلامات القديمة التي ملّ من مشاهدة إعلانات عنها في التلفزيون، العربي لا يشاهد فيلماً سينمائياً لا يعرف اسم مخرجه أو أسماء ممثليه، بل يحبذ فيلماً سبق له أن سمع عن اسم مخرجه أو أسماء ممثليه، هكذا سرت ثقافة عربية، تبجل القديم والمكرس على حساب الجديد، مهما كانت قيمته أكثر رفعة من القديم.
نلاحظ أن دور النشر الفرنسية تصنع الكاتب وليس العكس، تنشر له باكورته ثم ترافقه في أعماله الأخرى، فيصير مع الوقت مصدر ربح لها، وسبباً في دخل ثابت في ميزانيتها، تنعم بمبيعات أعماله بعد أن تستثمر في شخصه واسمه، وهذا أمر نادر عربياً، من الغريب أن نصادف كتاباً عرباً، لهم قيمتهم الأدبية وسمعة بين القراء، يطوفون كل عام من دار نشر إلى أخرى، عاجزين عن توثيق علاقة ثقة مع ناشر بعينه، ويتنقلون من دار إلى دار كل مرة، بحكم أن دار نشر لم تستثمر في أعمالهم، بل مارست أنانية في تعاملها، يهمها الاستثمار في كتاب بحد ذاته، لا الاستثمار في كاتب على المدى الطويل.
ما يزال الناقد العربي متردداً، يحسب ألف حساب قبل أن يباشر مقاربة في رواية أولى لكاتب لا سوابق له في الأدب، خشية أن يقع في مطب سوء التقدير، أو أن يعرض رواية سوف يظهر في وقت لاحق أنها ليست في مقام المدح الذي أغدقه عليها فيندم، لأن الناقد العربي يحس أن الأعين تراقبه، تهمه سمعته الشخصية لا روح المبادرة، لا يدافع عن حقه في الخطأ، يظن أن الخطأ سوف يحيله ـ لا محالة ـ إلى فقدان هيبته، لذلك يغض الطرف عن بواكير إلى أن تستوي سمعة ذلك الكاتب فيعود إليها بلا حرج، هذا الشك وسوء التقدير اللذان يساوران النقاد يجعلان من الكاتب في حيرة من أمره، يظن أن عدم الاهتمام بباكورته إنما السبب فيه عدم نضجها، مع أن باكورة كل روائي، ليست مجرد شهادة ميلاده، بل بطاقة جيناته الأدبية، ومهما سعى إلى قطيعة في ما يتلوها من أعمال، فإن رواياته اللاحقة ليست سوى تنويعات من الباكورة، سوف يواصل طريقه في الكتابة، لكنه سيعود في اللاوعي إلى روايته الأولى، وإن حاول إخفاءها عن الأعين والقراء، فسوف تظهر شظاياها في أعماله المستقبلية.

(القدس العربي)