سعد سرحان: الترجمة والخشب والخيانة

0

أُسلوب

تختلفُ ترجمة النصّ الواحد باختلاف مُترجميه، حتى ليَجوزَ القول: المُترجِم هو الأسلوب.
يُذكّر هذا التحوير على الفور بالعبارة الفرنسية: الإنسان هو الأسلوب. طبعًا، الإنسان بفِلْقتيه، الحديدِ والخشبِ، البأسِ والخصوبةِ، القضيبِ والغُصنِ… الرّجلِ والمرأة.
غيرَ أنَّ المترجِمَ العربيّ انبرى لها بقلمٍ من ّحديد، فجاءت هكذا: الرّجل هو الأسلوب.
وجبرًا للضّرر، ضررِ هذه الترجمة الأبوية، أُضيف: والمرأة هي البلاغة.

بحيرة

في نفس العدد نشرتْ، مرّةً، إحدى المجلات العربية، ثلاثَ ترجمات لـ”بُحيرة” لامارتين، مقدِّمةً بذلك لقارئها، على طبق من أدب، ثلاث بحيرات متباينة مساحةً وعمقًا وماءً. تُشكِّل تلك التّرجمات، مجتمِعةً، درسًا نموذجيًّا لمُترجم الشّعر كما لقارئه، اللّذَيْن أعتذر لهما عن عدم وجود ذلك العدد من المجلّة بين يديّ الآن.
في واحدة من تلك الترجمات، ارتأت قريحة المُترجِم أن يزفّ بحيرة لامارتين إلى فَحلٍ من بحور الخليل: تدخل في عصمته فإذا هي عصماء، ويَبني بها فإذا هي عموديّة المبنى، ويُخصبُ عذوبتها بملوحته فإذا هي مليحة المعنى… فنجح (هل فعل حقًّا؟) لا في ترجمة القصيدة فحسب، وإنّما في ترجمة الشّاعر أيضًا، إذ بدا لامارتين كواحد من أسلافنا العموديّين، أولئك الذين شاهدوا الرّمضاء وهي تُترجم السّرابَ إلى بحيرة.


■■■


غيوم

تتخلّقُ الغيوم من بخار الماء، فله عليها العودة إليه مهما شردت وضلّت، إذ هو رُشدها بعد نوبات الجنون.
غير أنّها، مخفورةً بالبُروق والرّعود، ومِن شتّى دروب الهواء تعود: مطرًا، بَرَدًا وثلوجًا، فتخبط خبط عشواء فوق المروج والغابات والجبال وسوى ذلك من ضُروب اليابسة، في خيانة ولا أوضح لأسِرَّةِ الماء.
وهي تُترجم عناصرَها، قد تفتح الطبيعة معجمَ السماء على فصيح الأرض، فتيْنع الخيانة.


■■■


فأس

الأرجح أنّ ذراع الفأس مقطوعةٌ من الشّجرة التي تُخفي الغابة، تلك التي يَتَعَهَّدُها الحطّاب بالرّعاية لهذا الغرض من بين أغراض أخرى.
ذراعُ الفأس ذريعةُ البأس لدخول الغابة. فليس الحديد وحده ما يفُلّ – بل الخشب أيضًا – ذراعَ فأس أو مقبضَ منشارٍ… فالخشب الخائن خدعة الحديد، وبِها يفُلُّ الخشبْ.
إنّما يترجم الحطّابُ مقاطعَ من الغابة وينشرها في طبعاتٍ لقرّاءٍ من لهبْ.
لا تدخل الفأس الغابة إلّا كما دخل الحصانُ المدينة الحصينة.
لكأنَّ كلّ غابة طروادة بجيوش من حطبْ.


■■■


صندل

كان يا ما كان في قديم الزمان، ملكٌ لم يكتفِ بالعرش ظلًّا للسماء على الأرض، فسوّلت له نفسه الأمّارة بالجلالة أن يُنزّل على رعاياه كتابًا يهديهم سواءَ المسير ويُجنّبهم سوءَ المصير.
وتعميمًا لنعمة الكتاب على غير المكان وسوى الزمن، أمرت بِطانة الملك الباطنة كبيرَ التّراجمة بنقله إلى إحدى اللّغات الطّاغية.
ولعلّها فطنة كبيرة من التّرجمان الفذّ أن لم يذهب رأسًا مذهبَ البأس في نقل الكتاب، إذ لفّ الحديد في الحرير قبل إيداعه صندوقًا من الخشب الكريم.
وفي رواية أخرى، أنَّ التّرجمان انبرى لترجمة الكتاب بقلمٍ من خشب الصّندل وحبرٍ من زيته.


■■■


ثمار

ما من شجرةٍ غير مثمرة.
وما من شجرة تُثمر بعد حين.
فما إن نغرس شجيْرة حتّى يسقط ظلّها على الأرض ثمرة ناضجة.
ثم تتوالى ثمارها: عصافيرَ، فراشاتٍ، زقزقاتٍ، أزهارًا، نحلًا، أعشاشًا وسناجب…
ولها أيضًا ثمار غير مرئية: أنفاسُها.
الشّجرة نفسها ثمرة عظيمة، ثمرة شعثاء…
إن قُطعت حيّةً آلت إلى ثمرٍ في البيت: بابًا أو دولابًا…
وإن قُطعت ميتةً آلت إلى جمر ورماد، وهما ثمار ما بعد الاحتضار.
أمَّا أغرب ثمارها على الإطلاق، فتلك التي من لحمٍ ودمٍ: الإنسان.
أليسَ الإنسان ثمرةً في شجرة العائلة؟

حقًّا، الشّجرة هي أصدق ترجمة للحياة.


■■■


خيانتان

يقينًا أنّ أشهر خيانة في التاريخ هي طعنة بروتوس، فالحتف منها كان في النّظرة لا في النّصل.
أمّا أشهر انتقام فليس سوى تلك الصرخة، صرخة القيصر العابرة للأزمنة: “حتى أنت يا بروتوس؟”
الطّعنة أنهت حياة القيصر.
أمّا الصرخة فخلّدت اسم بروتوس خائنًا.

ترتبط الخيانة عمومًا بالعلاقات النبيلة، مثلما تفعل بالوعود والمواثيق والعهود والوصايا… أمّا في الأدب، فحقلُها الخصيب هو الترجمة، حتى قبل أن تلاحظ اللغة الإيطالية في اسمِ المترجم نطقَ الخائن.

الخيانات في الأدب أكثر من أن تُحصَى. لكن، إذا كان لواحدة أن تُذكر، فهي خيانة ماكس برود لوصية كافكا. فقد ترك هذا الأخير، وقد اشتدّ به المرض، قصاصةً لصديقه يرجوه فيها إحراق أعماله غير المنشورة. إلّا أن ماكس لم يفعل. لقد خان صديق عمره بترجمة الوصية إلى عكس ما جاء فيها، خانه بنشر أعماله التي يدين قرّاؤها في مختلف اللغات لتلك الخيانة التي تفوق نبلًا كلّ وفاء.

لقد مُنِيَ القيصر ببروتوس
فيما حظي كافكا ببرود
وشتّان بين خيانة تُرْدِي وخيانة تُحْيِي.


■■■


الخشب

لولا أنّه بيت مأهولٌ لحسِبتُه معبدًا لديانة غابَوِيَة، حيث يَتَرَتّلُ الخشب، في صمتٍ، من الباب إلى الدّولاب.
– قلت لصاحبه: “لا بأس بالبيت في هذا المنأى”.
– “أيَّ بأسٍ تقصد؟”
– “أقصد الحديدَ، فهو يدرأ الأيدي عن المنافذ”.
– “لكنّي لم أبتعد عن المدينة إلى هذه الضّاحية إلّا هربًا من الحديد إلى الخشب”.
– قلتُ: “كيف؟”
– قال: الحديد جسدٌ، إذا انتصب قضبانًا فهو سجن. أمّا الخشب فروحٌ، وقضبانه العملاقة الوارفة هي ما يشكّل الغابة، مهدَ الحرّية”.

لقد أُعجبتُ أيّما إعجاب بدرس صاحبي العميق حول المادة، حتى أنّني، وأنا أغادر بيته، لم أستطع إخفاءَ نجابتي، فالتفتّ إليه قائلًا: “أَغلقِ الشّجرةَ خلفك”. 

(العربي الجديد)