سعد الله ونوس.. الريادة الثانية في المسرح السوري

0

نجم الدين سَمَّان، كاتب وناقد سوري له العديد من المؤلفات

مجلة أوراق العدد 13

المسرح

* عن البدايات المسرحية الأولى.

إذا كانت الريادة الأولى في المسرح السوري معقودةً لأبي خليل القباني 1833 – 1903 فإن الريادة الثانية فيه معقودةٌ لسعد الله ونوس 1947 – 1997.. بالتأكيد.

كلاهما.. أسّس لنقلةٍ نوعيّة؛ وكلاهما.. انطلقا من البحث عن هُويَّةٍ عربية لهذا الفنّ الناشئ في عالمنا العربي؛ والوافدِ من ثقافات أخرى؛ فيما كانت “الحكاية والسيرة والحكواتيّون وخيال الظل” هي التجليّات المسرحية الأولى التي لم تتطوّر من داخلها.. لتصير مدرسة فنية مسرحية خاصةً بنا؛ على غرار مسرح “النو” الياباني الذي تطوّر من داخل ثقافته.. بمَعزلٍ عن التأثيرات غير الآسيويّة؛ الأوربية تحديداً؛ بينما لم يعرف العربُ فنَّ المسرح حتى بدأ المسرحيون الأوائل يحتكون بالثقافة الأوربية؛ فنقلوا ذاك الفنّ إلينا. كما فعل مارون نقاش في بيروت عام 1848 وقد أُتيح له الاطلاع على المسرح الفرنسي والإيطالي فانتقل بمناخاته إلى الشاطئ الآخر من المتوسط؛ مُكتفياً بتعريبه لغةً.. عن نصوصٍ وأداءٍ وديكوراتٍ وأزياءٍ أوروبية؛ حيث كانت النخبة البيروتيّة آنذاك مُستعدةً لتقبُّل أيّة ذائقةٍ وافدة، بما فيها أزياءُ تلك الأيام وأطباق طعامها وأنماط حياتها وفنونها.. سواءً بسواء. في حين لم تكن دمشق “شام شريف” مُهيأة لذلك بعد، على عَهدِ مُدُنِ الساحل في الانفتاح على الآخر، ومُدِن الداخل في الانكفاء على ذاتها، وبخاصةٍ.. بعد أن صارت دمشق مُجرّدَ ولايةٍ في السلطنة العثمانية، وقد فقدت دورها التاريخيّ والحضاريّ كعاصمةٍ ميتروبوليتانيّة.

يُقَال في تواريخ أبى خليل القباني أنه شاهد إحدى مسرحيات مارون نقاش؛ لكنه حين انطلق عام 1865 بعرضه المسرحيّ الأول.. كان من حيثُ يدري؛ قد أنجز افتراقاً لافتاً، غَدَتْ بَعْدَهُ تجربة النقاش الرياديّة مُجرَّدَ ولادةٍ قيصريّة للمسرح العربي المعاصر، بينما تبلور خَيَار القباني المسرحي في الرحم ذاته الذي أنجزته الذاكرة العربية الجمعية؛ من حيث لم تعرِف مسرحاً.. مُكتفِية بالشِعر وروايته؛ وبالسِيَر والحكايات يَقَولها الحكواتيّة شِفاهاً، أو الكراكوزاتيّة.. بما يُقَارب التجسيد الإذاعيّ للصورة المُنعكِسة من ظلالها.

سيجد أبو خليل القباني أنّ أغلبَ إرثه الحضاريّ الأكثر قُرباً من المسرح: هو الحكاية، وأنّ أكثر ما تواتَرَتهُ الأجيال هو الشعر: روايةً وغناءً؛ فكان أن مزَجَ الإقنومَين معا.. في أكثر من سبعين مسرحية غنائية من تأليفه وتلحينه، بدأها في دمشق؛ ثم مضى بها إلى مصر، مُؤسساً للمسرح الغنائيّ العربيّ؛ حيث مهَّدَ الطريق أمام تجارب: سلامة حجازي ـ كامل الخُلعي ـ عبدو الحمولي ـ سيد درويش، وصولاً إلى مسرح “الأخوين رحباني” الغنائيّ بحنجرته الفيروزية.

المُفارقة التي جمعت كلَّ هؤلاء الروَّاد الأوائل من القباني وحجازي إلى سيّد درويش، أنهم قصدوا حلبَ حاضنةِ الإرث الغنائيّ العربيّ من موصل زِرياب إلى الأندلس، لا.. ليعرضوا أعمالهم فيها فحسب، وإنما ليمكثوا فيها زمناً؛ وليأخذوا عن أساتذتها فنون الغناء، وبخاصةٍ: المُوشحات والقدود والقصائد المُغنَّاة.. بما فيها الصوفيّة.

هكذا فعل أبو خليل القباني حين بلوِرَ تجربتَه على يد الشيخ الحلبيّ أحمد عقيل، كما ترك سيد درويش فرقة سلامة حجازي تعود إلى مصر بدونه؛ ليمكث في حلب مُجَاوِراً لموسيقارها آنذاك.*

بعد أكثر من مئة عامٍ على العرض المسرحيّ الأول لأبي خليل القباني؛ كتب سعد الله ونوس مسرحيته “سهرة مع أبى خليل القباني”؛ ثم أصدرَ بيانَه التأسيسيّ حول “تأصيل المسرح العربيّ” فإذا به يُؤسِس على تجربة أبى خليل القباني، تلك التي كافأها المُتزمتون في دمشقُ آنذاكَ.. بإحراق مسرحه!.

سبعة عشر مسرحية ألَّفها ولحنَّها أبو خليل القباني وقدمَّها في دمشق، حتى وصل عدد أعضاء فرقته إلى الخمسين.. يُمثلون ويُغنون ويعزفون؛ ويقوم بعضهم.. بأدوار النساء، وبينهم مَن صار رئيساً للدولة السورية: عطا الأيوبي عام 1936 ومَن صار طبيباً وتاجراً ومعلماً، ومنهم مَن استمرّ في المجال الفنيّ على الرغم من الضغوط الاجتماعية.*

نذكر من أعضاء فرقة القباني بدمشق: صالح باشا ـ داوود الخوري ـ أمين الأصيل ـ نقولا شاهين ـ توفيق شمس ـ الشيخ عبد الرحمن القصار ـ محمود الكحال ـ الشيخ رشيد عرفة ـ محيي الدين عرفة ـ راغب الصيداوي ـ مصطفى القاري.. وآخرين.

أما في مصر.. فقد أنجز القباني ثلاثة وخمسين مسرحية غنائية، بدأها في الإسكندرية ثم انتقل بها إلى القاهرة، فذاع صِيته، كما ورد في أحد أعداد جريدة “الأهرام”؛ طيلة ستة عشرة عاماً قضاها في مصر حتى منحه “الخديوي توفيق” دارَ الأوبرا.. ليعرض عليها مسرحياته بلا مقابل طيلة أسبوعين بعد أن حضر إحدى عروضه.

وسيكون حريق مسرحه الثاني “دار التمثيل” في القاهرة؛ خلال غياب أبي خليل القباني في جولة مسرحية، الضربةَ الثانيةَ القاصِمة، يعود بعدها إلى دمشق.. لِيُوَافيه الأجَلُ والنسيان عام 1903؛ وسنذكر رحلته إلى الولايات المتحدة الأميركية حيث عرض في شيكاغو للجاليّة السورية – اللبنانية بعضاً من أعماله ومنها: “عرس شرقي في دمشق ـ عنترة بن شداد ـ هارون الرشيد مع أنيس الجليس”*

ومن مسرحياته السبعين، تبقَّت في مُتناول الباحثين -بالإضافة إلى مسرحياته الثلاث السالفة الذكر- نصوص: “ناكر الجميل ـ الأمير محمود نجل شاه العجم ـ عفيفة ـ لباب الغرام ـ حِيَل النساء”.

وأغلبها.. تستلهم السير العربية الشعبية وحكايات ألف ليلة وليلة. بالإضافة إلى ألحانه التراثية والشعبية ومُوشحاته وقصائده المُغَنَّاة، حيث كتبَ ولحَّنَ وغنّى.. حين أضناه شوقه في القاهرة إلى دمشق:

“يا طِيرَه طِيري.. يا حَمَامَه / وَدِّيني لدُمَّر والهامَه”.

* بدايات سعد الله ونوس.

لا تتبلور تجربة المرء دفعةً واحدة؛ وإنما في سياق تجربته؛ ومن داخلها؛ ولهذا.. تبدو النصوص المسرحية الأولى لونّوس وكأنها لشخصٍ آخر؛ قياساً بنصوصه اللاحقة؛ كما تبدو بأنها نصوص رمزية بلمسات وجودية؛ لكنها تنتمي للمسرح الذهنيّ بُنيةً وسرداً مسرحياً؛ وفي بعضها.. لغة شعرية؛ وفي بعضها الأخر.. تميل الى المُباشرة.

وستتبدى الرمزيّة في مسرحيته “جثة على الرصيف” من حيث تفترض وجود جثة أحدٍ ما.. على خشبة المسرح “الرَكح” كمفتاحٍ أول للفعل المسرحي؛ كما تتبدّى رمزية تلك المرحلة في مسرحيته “حكاية جوقة التماثيل”.

أمّا أولى مسرحياته الطويلة فكانت بعنوان “الحياة ابداً” عام 1961 لكنها تنشر حتى عام 2005 بعد وفاة الكاتب؛ وفي عام 1963 نشر مسرحيته “ميدوزا تُحدّق في الحياة” ثمّ نشر ثلاث مسرحيات قصيرة في مجلتيّ “الآداب” البيروتية و”الموقف العربي” الدمشقية؛ وهي مسرحيات: فصد الدم 1964؛ جثة على الرصيف 1964؛ مأساة بائع الدبس الفقير1964. ضَمَّنها بعد ذلك في كتابٍ له بعنوان “حكاية جوقة التماثيل” 1965 وضمَّت بالإضافة الى المسرحيات القصيرة الثلاث السابقة: لعبة الدبابيس؛ الجراد؛ المقهى الزجاجية؛ الرسول المجهول في مأتم أنتيجونا.

وفي تلك النصوص المسرحية الأولى رَكَّزَ ونوس على إضاءة الحياة النفسيّة لشخصياته، بأكثرَ من ملامحها الخارجية.

منذ عام 1959 مع إيفاده الدراسيّ الأول للحصول على ليسانس الصحافة من كلية الآداب جامعة القاهرة؛ وحتى إيفاده الدراسيّ الثاني إلى باريس عام 1966 كان سعد الله ونوس يبحث عن صوته المسرحيّ الخاص؛ يتدرّب.. كما المُغنّي في الأوبرا لتجويد أدائه؛ ويُجرِّب؛ لتضعه الوقائع بمُواجهةٍ مُباشرةٍ مع سؤال الهوية والوجود؛ مثلما أن فشلَ الوحدة بين مصر وسوريا عام 1961 وهو ما يزال طالباً في القاهرة.. قد دفعه لكتابة أولى مسرحياته “الحياة أبداً”؛ فإن هزيمة حزيران/ يوليو 1967 قد بلورت لغته المسرحية الخاصة به؛ فكتب بعد عامٍ من ذاك الحدث؛ وهو في باريس مسرحيته “حفلة سمر من أجل 5 حزيران” التي يُمكن القولُ بأنها أولُ وجوه الموشور الكريستاليّ في تجربته التي صقلتها الموهبة وأسئلةُ واقعنا العربي المُعاصر في آنٍ معاً.

* من المسرح الرمزي إلى المسرح السياسي “تسييس المسرح”.

تتبدّى التأثيرات البريختيّة في تجربة سعد الله ونوس – نسبةً للكاتب الألماني برتولد بريخت”- وبخاصةٍ في مسرحيته “حفلة سمر من أجل 5 حزيران”؛ ومعها ستتبلور مرحلة مسرحه السياسيّ تأسيساً على نظرية بريخت في المسرح:

التغريب والتأرخة والدياليكتيك؛ مع كسر الجدار الرابع بين الخشبة والجمهور؛ بحثاً من ونوس عن مسرح ملحميّ عربيّ مُعاصر؛ وهذا نموذج فحسب عن الأسئلة الكبرى التي طرحها ونوس حول هزيمة 1967، وعن مسؤولية كلٍّ من الرجل المُثقف والرجل العادي؛ في حوارٍ بين ممثلين اثنين؛ من ممثلي مسرحيته “حفلة سمر لأجل 5 حزيران”:

“ممثل 1: هل حقاً نحن المسؤولون؟

ممثل 2: “ينتفض فجأة: – حسن لتنصب المرآة أمامنا هنا “يرسم مستطيلا في الفراغ” سنضعها في مواجهتنا.. مرآة كبيرة ترسم قامتنا مهما علت، وستنظر في جوفها جيداً.. سننظر “يلتفت إلى المتفرجين” لكي نتحّمل المسؤولية، ألا ينبغي أن نكون موجودين؟

ممثل 1: – ليس وجودنا هو السؤال الجوهري.. بل نوعية هذا الوجود “ثم بعنف” لنعترف أننا المسؤولون. نهرب؟!؛ نتخلص من رائحة شيء كريه يفوح بيننا وحولنا.

ممثل 2: – قبل أن نُلقي على أنفسنا الأحكام، من الأهم أن نعرف من نحن؟؛ ما هي هذه المرآة “يعود فيرسم مستطيلاً في الفراغ” تعالوا نسألها من نحن؟

ممثل 5،4،3: “بصوت واحد” حقاً.. من نحن؟

ممثل 2: السؤال موجود قبل الهزيمة؛ لننفض عنه التراب لا أكثر.

“يعود إلى اللعبة” نُحدّق إلى المرآة ونسأل سطحها الصقيل بإلحاحٍ من نحن؟؛ في الجوف.. في القعر.. في الزوايا.”*

يبدو هذا الحوار.. كما لو أنه بين سعد الله ونوس وبين نفسه؛ كما في داخل كلّ مواطن أو مثقفٍ عربيّ من جيل هزيمة 1967؛ ومن أجيال هزائمنا العربية اللاحقة.. أيضاً.

* المسرح حياة.. والمسرح حياته.

يُمكن الإشارة هاهنا.. إلى ما قدّمه “المسرح القومي” في سوريا منذ بواكير تأسيسه عام 1959 وحتى عام 1966؛ وبالضبط.. في أول ثلاثين عرضاً مسرحياً من المسرح العربي والعالمي؛ حتى تمّ تقديم أول نص محلي سوري هو “البيت الصاخب” من تأليف: وليد مدفعي وإخراج: سليم صبري؛ وسوى عرضين آخرين عن نصين محليين كتبهما ممثلان سوريان: أحمد قنوع ـ عبد اللطيف فتحي!؛ مع تقديم نص واحد “صابر أفندي” عام 1968 لمؤسس الدراما الشعبية السورية حكمت محسن؛ ومن إخراج: عبد اللطيف فتحي؛ تلاه نصّ “السيل” عام 1969 لعلي كنعان ومن إخراج: أسعد فضة. ثم بدأت ظاهرة المخرج/المؤلف مع علي عقلة عرسان في “الشيخ والطريق” عام 1968.

لهذا.. يُمكن اعتبار سعد الله ونوس.. أولَ كاتبٍ سوري ينذر حياته وابداعه وعمله الإداريّ والصحفيّ.. للكتابة المسرحية؛ وللمسرح فقط.

* تأصيل ونّوس للمسرح العربي.

بعد صدمة 1967 أنتج سعد الله ونّوس أربعة نصوص مسرحية على التوالي: الفيل يا ملك الزمان 1969 استخدم فيها المادة التاريخية لصناعة حكاية قادرة على إعادة إنتاج الحاضر بإسقاطات سياسية واجتماعية معاصرة؛ وكذا فعل في نصّه: مغامرة رأس المملوك جابر 1971؛ وفي نصه: سهرة مع أبي خليل القباني 1973 استخدم تقنية المسرح داخل المسرح مازجاً فيها ظواهر الفُرجة الشعبية بمسرح خيال الظلّ بمصطلحات التغريب البريختية؛ وبخاصةٍ في مسرحيته الملك هو الملك 1977 وفيها استلهم ونوس بشكلٍ بارعٍ إحدى حكايات “ألف ليلة و ليلة” لتكون حكايةَ كلّ زمان ومكان وتشريحاً لبُنية السلطة في شرقستان؛ وكتب بعدَها نصّه: رحلة حنظلة من الغفلة إلى اليقظة عام 1978.

وفي جميعها.. أصداءُ بيانه الشهير: “بيانات لمسرح عربي جديد” عام 1970؛ ويبدأ من السؤال عن الجمهور المُستهدف لهذا المسرح جديد:

“جمهور نحن نعلم سلفاً أن وعيه مُستلب، وأن ذائقته مُخرَّبة، وأن وسائله التعبيرية تُزيّف، وأن ثقافته الشعبية تُسلَب ويُعاد توظيفها في أعمالٍ سُلطويّة تُعيد إنتاج الاستلاب والتخلّف”

 من حيث يسعى ونّوس إلى “مسرحٍ يكون مُعلّما، وفي نفس الوقت، تلميذاً لهذه الجماهير، لا مسرحاً يُنصِّبُ نفسَهُ سيّداً مُتعالياً عليها، مسرح يهدف إلى تحرير الجماهير من السلبيّة، وتنمية الوعي لديها، كي تستطيع امتلاك الجرأة على المناقشة والتفكير في قضاياها السياسية والاجتماعية، ليتعمق لديها الإدراك بالمصير المشترك”.

ويتابع: “إننا نصنع مسرحاً لأننا نريد تغيير وتطوير وتعميق وعيٍ جماعيّ بالمصير التاريخي لنا جميعاً”.

ولكن هل يصنع المسرح.. ثورةً؟.

في حوارٍ بعد عشر سنوات من الهزيمة أجراه معه د. نبيل الحفار؛ قال ونّوس عن مسرحيته حفلة سمر من أجل 5 حزيران:

“حين عُرضت المسرحية بعد منعٍ طويل، تبدّد الحُلم في يقظةٍ خشنة، كان مذاق المرارة يتجدّد مساءً في داخلي، ينتهي تصفيق الختام ثم يخرج الناس كما يخرجون من أيّ عرضٍ مسرحي، يتهامسون أو يضحكون أو يمتدحون، ثم ماذا؟؛ لا شيء آخر، أبداً.. لا شيء، لا الصالة انجرفت في مظاهرة؛ ولا هؤلاء يرتقون درجات المسرح ينوون أن يفعلوا شيئاً عندما يلفظهم الباب إلى الشارع حيث تُعشش الهزيمة… من تجربتي الخاصة تعلّمت، أن المسرح لا يستطيع أن يُنجز ثورة، أو أن يتدخل في مجرى الأحداث. هو فعّال، لكن فاعليته ليست راهنةً ولا مُباشرة”*

وفي مرحلة لاحقة.. قال في بيانه “ليوم المسرح العالمي” الذي نظمه المعهد الدولي للمسرح، التابع لليونسكو، عام 1996:

“المسرح في الواقع أكثر من فن. إنه ظاهرة حضارية مُركبة؛ سيزداد العالم وحشةً وقُبحاً لو أضاعها أو افتقر إليها”*

وفي كلمته تلك.. قال الجملة الأكثر شهرةً له:

“إننا محكومون بالأمل، وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ”.

*- صيامه المسرحي.

استمرَّ صمته وتوقفه عن الكتابة للمسرح في فترة ما بين أواخر السبعينات من قرن مضى.. حين كتب آخرَ مسرحيةٍ له في تلك المرحلة: الملك هو الملك 1977؛ وحتى مطلع التسعينات حين عاد الى الكتابة مع مسرحيته: الاغتصاب عام 1990.

عن ذاك الصمت وتلك المرحلة قال عبد الرحمن منيف إنها “جديرة بالتمعن، لِمَا تُمثله من نزاهة فكرية، ومُحاسبةٍ للنفس قبل مُحاسبة الآخر، والتردد؛ أو الخوف من مُخاطبة الآخر قبل مُخاطبة النفس”.

حيث اكتفى سعد الله ونوس بعد عام 1977 بتأسيس “فرقة المسرح التجريبي” مع رفيق رحلته المسرحيّة المخرج فواز الساجر؛ وبإعداد النصوص له عن مسرحياتٍ عالمية..  بدءاً بمونودراما “يوميات مجنون” 1977 عن الروسي نيقولاي غوغول، وانتهاءً بمسرحية “الحكايات الثلاث” 1980 للأرجنتيني ازوالدو دراكون. بينما منعت الرقابة عرضَ مسرحية “توراندوت مؤتمر غاسلي الأدمغة” التي أعدّها ونوس عن نصٍ لبرتولد بريخت؛ ثم يُقدمان معاً مسرحية “رحلة حنظله من الغفلة إلى اليقظة” 1979عن نصّ “كيف تخلّص السيد موكينبوت من آلامه” للكاتب الألماني “بيتر فايس”،

فهل كان الموت المفاجئ لصديقه فواز الساجر عام 1988 أحد أسباب استمرار هذا الصمت؟!.

كتب ونوس في رثائه للساجر.. ما يلي:

 “مات فواز الساجر.. كان موته شبيهًا بالخيانة، توقفت المشاريع ولم تنجز، لا وداع؛ ولا وصيّة… حدقتُ في التابوت المُثقل بأكاليل الورد. أفي هذا الجوف الخشبي.. جسدٌ أم دعابة؟!. أهو المسرح يرتدي ضوء النهار ويُوغل في أداء الموت حتى الموت؟!”.

* من المسرح السياسي الملحمي إلى المسرح السياسي الاجتماعي

لا تتبلور تجربة المبدع.. دفعة واحدة؛ فهي كقطار الحياة ذاتها.. حتى آخر محطاته؛ بل.. إنها كسيرورة الهُلام في رَحِم المحارة حتى يتبدى لؤلؤة صافية؛ أمّا النقلةُ الأكثر نوعيّةً في مسيرة سعد الله ونوس.. فقد بدأت مع مسرحيته “مُنَمنَمَات تاريخيّة 1994” وفيما تلاها من مسرحياتٍ كتبها طوالَ فترة مُقاومته للسرطان بمُضادات الابداع؛ وفيها يحفر ونوس عميقاً في بُنية المجتمع العربي؛ بدءاً من نُوَاته الأولى: الأسرة، وصولاً إلى بُنية السلطة الدينيّة والدُنيويّة؛ ومن حيث يكشف الموقفُ من المرأة حقيقةَ هذا المجتمع البطريركيّ الذكوريّ؛ والشَرخَ البُنيويّ العميق فيه؛ كما تبدّى ذلك جلياً في نصوصه: يوم من زماننا – أحلام شقية – ملحمة السراب – الأيام المخمورة.

ربما اكتشف ونّوس بأن الحكاية “التراثية” وحدها.. قد تحمل مقولةً تحريضيّة سياسيّة راهنة؛ فالفيل في مسرحيته “الفيل.. يا ملك الزمان” يرمز لقوة الاستبداد الهائجة تدوس كرامات الناس؛ وفي مرحلةٍ لاحقة بعد “الربيع العربي” قد يُؤوله مُخرجٌ شاب على انه رمزٌ لفلول الاستبداد؛ وقد صار “جَملاً” في “ميدان التحرير” يدوس المُتظاهرين الشباب؛ أو كما يتبدّى الملكُ كرداءٍ وتاجٍ فحسب.. مهما كان مَن يرتديه؛ في مسرحيته “الملك.. هو الملك”؛ ثم اكتشف سعد الله ونوس بأنّ المقولات.. لا تصنع تغييراً؛ ومنها تلك التي استخدمها في تلك المسرحية كمحطات انتقال بين مشهد وآخر: “إن الملك على مقاس الرجل، والرجل على مقاس الملك” أو كجملةٍ على لسان إحدى شخصياتها “زاهد: أعطني رداء وتاجاً.. أعطِك مُلكاُ”   وسيكتفي الجمهور بالتصفيق لها؛ ثم يخرجون من المسرح إلى حياتهم اليومية المُعتادة؛ كما عبّر عن ذلك بعد عروض مسرحيته “سهرة من اجل 5 حزيران” التي ما تزال تتربع الرقم الأعلى في ليالي عروض المسرح القومي بدمشق؛ وحققت انتشاراً على خشباتٍ مسرحية عربية في غيرها من العواصم والمدن العربية؛ يقول ونّوس:

“من تجربتي الخاصة تعلّمت، أن المسرح لا يستطيع أن يُنجز ثورة، أو أن يتدخل في مجرى الأحداث. هو فعّال، لكن فاعليته ليست راهنةً ولا مُباشرة”*

لقد اكتشف ونوس بعد سنواتٍ من مرحلة مسرحه السياسيّ الملحميّ؛ وبعد مرحلة صمته الثاني عن التأليف المسرحي؛ بأن السياسة وحدها لا تكفي للحفر في الراهن العربي.. سوى مع الحفر في بنية المجتمع ذاته؛ كما لو أنه قد قرّر مُداواة السرطان المُستشري في جسده؛ والمُستشري في جسد الأمة.. بمضادات الابداع؛ حتى لو كان آخرُ الدواء.. الكَيّ.

وتبدّت حفرياته في الاجتماعي/السياسي منذ مسرحيته “منمنمات تاريخية” 1994 وفيها يكشف تواطأ الكهنوت الديني مع السلطة السياسية؛ وحتى مع الغزاة؛ فإذا نطق رجل دينٍ بالحق.. كفّروه او قتلوه أو أحرقوا كتبه؛ كما فعلوا بالشيخ كمال الدين الشرائجي؛ وهو مزيجُ شخصياتٍ في شخصية ابتدعها ونّوس؛ مزيجُ ابن عربي بابن رشد والحلّاج وسواهم من المُنوّرين اللاحقين كعبد الرحمن الكواكبي.. الخ؛ وفي تلك المسرحية يقول الشيخ جمال الدين بعد مشاهدته لفعل إحراق الكتب: “ما أتعس حالنا إذا كان علماء الأمة يسمُّون الاجتهادَ والعلم كفرًا”. ثم يردّ على اتهامه بالإلحاد وهي التهمة الجاهزة في كلّ زمان ومكان.. بقوله: “الله وهبني عقلاً فلِمَ أُعطِّلهُ”.

ويختم في مشهد آخر:

“آمنتُ أن العقلَ خيرٌ من النقل وأن الله عادلٌ لا يقدِّر على عباده الفقر أو الذل”

وقد توالت حفريات ونوس في الحقل الاجتماعي/ السياسي مع “طقوس الإشارات والتحولات” 1994ثم مع “يوم من زماننا” 1995 وحتى مسرحيته “الأيام المخمورة” 1997.

تحتاج تلك الباقة من مسرحياته الأخيرة إلى دراسة خاصة؛ لا تتسع لها هذه المداخلة؛ لأنها دُرَّة انتاجه الإبداعيّ المسرحيّ؛ وتستحق وحدها “جائزة نوبل للآداب” فكيف بمُجمل أعماله وبمُجمل سيرورته التي نذرها للمسرح وللناس؛ لولا أن السرطان المُستشري في شرقنا قد خطفه من مُحبّيه ومُتابعيه وتلامذته المسرحيين من محيطٍ إلى خليج؛ وما زلتُ آمَلُ أن أكونَ أحد مُريديه في حبّ المسرح كما في حبّ الحياة.

* خاتمة..

أنهى سعد الله ونوس مسرحية “الفيل يا ملك الزمان” بهذه النبوءة:

“الجميع: هذه حكاية.

ممثل 5: ونحن ممثلون.

ممثل 3: مثلناها لكم لكي نتعلم معكم عبرتها.

ممثل 7: هل عرفتم الآن لماذا توجد الفِيَلة؟

ممثلة 3: هل عرفتم الآن لماذا تتكاثر الفِيَلة؟.

ممثل 5: لكن حياتنا ليست الا البداية.

ممثل 4: عندما تتكاثر الفيلة تبدأ حكاية أخرى.

الجميع: حكاية دموية عنيفة.

وفي سهرة أخرى سنُمثل جميعا تلك الحكاية.” *

وعندما زرته في بيته بدمشق عام 1990 وأهديتُه نسخةً من مسرحيتيّ “درب الأحلام” الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1989.. كتبتُ في الإهداء:

” تعلّمتُ منكَ الكثير: الحياةَ في المسرح ومسرحَ الحياة.. كليهما معاً”.

———

*مسرحيات وكتب سعد الله ونوس بحسب تواريخ النشر:

– مسرحية: الحياة أبداً 1961 ” نُشرت عام 2005 بعد وفاة الكاتب

– مسرحية: ميدوزا تُحدق في الحياة 1964.

– مسرحية: فصد الدم 1964.

– مسرحية: عندما يلعب الرجال 1964.

– مسرحية: جثة على الرصيف 1964.

– مسرحية: مأساة بائع الدبس الفقير 1964.

– مسرحية: حكايا جوقة التماثيل 1965.

– مسرحية: لعبة الدبابيس 1965.

– مسرحية: الجراد 1965.

– مسرحية: المقهى الزجاجي 1965.

– مسرحية: الرسول المجهول في مأتم أنتيجونا 1965.

– مسرحية: حفلة سمر من أجل خمسة حزيران 1968.

مسرحية: الفيل يا ملك الزمان 1969.

– مسرحية: مغامرة رأس المملوك جابر 1971.

– مسرحية: سهرة مع أبي خليل القباني 1973.

– مسرحية: الملك هو الملك 1977.

– مسرحية: رحلة حنظلة من الغفلة إلى اليقظة 1978.

– كتاب: بيانات لمسرح عربي جديد 1988

– مسرحية: الاغتصاب 1990.

– مسرحية: منمنمات تاريخية 1994.

– مسرحية: طقوس الإشارات والتحولات 1994.

– مسرحية: أحلام شقية 1995.

– مسرحية: يوم من زماننا 1995

– مسرحية: ملحمة السراب 1996.

– مسرحية: بلاد أضيق من الحب 1996.

– كتاب: رحلة في مجاهل موت عابر 1996.

– مسرحية: الأيام المخمورة 1997.

– كتاب: هوامش ثقافية 1999.

———–

* المراجع والهوامش:

* كتاب “وقائع مسرح أبي خليل القباني في دمشق 1873-1883” لتيسير خلف عن دار المتوسط 2018.

* كتاب “من دمشق إلى شيكاغو- رحلة أبي خليل القباني إلى أمريكا 1893” لتيسير خلف – عن دار المتوسط 2020.

* كتاب “إضاءات مسرحية: لنجم الدين سمان – وزارة الثقافة؛ دمشق 2009.

-* سعد الله ونوس “الفيل يا ملك الزمان” الأعمال الكاملة، المجلد الأول؛ دار الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، عام 1996.

* سعد والله ونوس “عن الذاكرة والموت” دار الأهالي، دمشق 1996.

* مجلة “أدب ونقد” عام 1987.

* سعد الله ونوس، الأعمال الكاملة، المجلد الأول والثاني – سوريا، دمشق، دار الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، عام 1996.

* كتاب “المسرح في سوريا على مفترق الطرق” لرياض عصمت – الناشر: المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم 1982.

* ويكيبيديا.. السيرة الذاتية لسعد الله ونوس.

* سعد الله ونوس “الفيل يا ملك الزمان” الأعمال الكاملة، المجلد الأول؛ دار الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، عام 1996.

* حوار مع سعد الله ونوس، أجراه نبيل حفار، مجلة “الطريق” العدد الثاني – أبريل/ ماي 1986

* سعد الله ونوس، بيانات لمسرح عربي جديد، دار الفكر الجديد، بيروت، الطبعة الأولى، 1988

——–

*- هذا الدراسة شاركت بها في الملتقى الفكري الافتراضي المُوسع عن الكاتب المسرحي سعد الله ونوس بعنوان “الأمل ينتصر والحلم يستمر” الذي نظمته مؤسسة العويس الثقافية يومي الثلاثاء 25 والأربعاء 26 مايو / أيار 2021.