سعد القرش: رسائل إلى الشعراء الشباب… من ريلكه وأنسي الحاج ومحمود قرني

0

بانتهاء قراءتي لكتاب راينر ماريا ريلكه “رسائل إلى شاعر شاب”، عثرت على حوار قديم للشاعر اللبناني أنسي الحاج، عن أوهام وأساطير أحاطت بتجربته، وصادف ذلك صدور مختارات من قصائد الشاعر المصري محمود قرني، عنوانها “أبطال الروايات الناقصة”، ويصاحب المختاراتِ كتابان في مديح الشعر والشعراء هما “بين فرائض الشعر ونوافل السياسة” و”لماذا يخذل الشعر محبيه؟”.

هذا المثلث الألماني اللبناني المصري يغريني بالخوض قليلاً في الشعر والشعراء، باقتراب سريع، والأسرع منه الارتداد إلى التخوم؛ فالشعراء أكثر حساسية وغيرة وحرصاً على ألا يقربهم غيرهم، بل قلما نجد شاعراً يتسامح مع زميله، وتكاد التيارات والمدارس الشعرية تتوازى توازياً يبلغ حدّ الإنكار، ويُبطن التكفير الفني.

الشعر في أزمة، ليس بسبب قلّة المحصول، وكساده أمام رواج تجاري وجوائزي وإعلامي للرواية. أزمة الشعر في كثرته. في معظم ما يصدر من دواوين تتشابه علينا القصائد، وتتناسخ من بلد عربي إلى آخر، بغزارة لافتة في غياب مفرزة نقدية تنتزع اللؤلؤ المخفي تحت ركام الزّبَد. غزارة تنطلق من اجتراء واستسهال، وتقليد للآخرين، واستنساخ “الشاعر” لتجربته. وفي العالم العربي يمكن الإشارة إلى بضعة شعراء يتجاوز وعيهم دائرة الشعر، إلى الانخراط في الثقافة بمعناها الأشمل. وما يمنح الإبداع تجدده هو الثراء النوعي لمبدعه، فلا تكفي الروائي قراءةُ الروايات، ولا الشاعر الإحاطة بتراثه الشعري. ونستطيع الحكم على “مبدع” بالإنصات إليه خارج حدود تخصصه.

أنسي الحاج مارس حريته، ونزع الثياب الرسمية للشعر، وكتب ـ من دون تخطيط أو وعي قصدي ـ ما شعر به، ما تصوره شعراً، وكان صادقاً مع نفسه، وأعماله النثرية تقول إن وراء قصائده مثقفاً كبيراً. هذا ما أعنيه بالإنصات إلى “المبدع” بعيداً عن أرضه، والنظر إلى تكوينه الثقافي، ورؤيته للعالم ولسيرورة الفن وتطوره.

لي تجربتان في مجلة الهلال وحضور أمسيات بمهرجان المربد، كلتاهما تكفي لرؤية ملامح القطيعة بين تيارات تمارس الإقصاء، والتكفير الصامت. هناك مراهنون على الموت على شريعة العمود الشعري، فلا تحدثوهم عن قصيدة النثر ما لم يؤمنوا بوجود الشعر التفعيلي الذي لا يعترف البعض من رواده بقصيدة النثر.

حين كتب أنسي الحاج قصيدته، وربما قبل أن يفاجئ الذائقة التقليدية بديوانه “لن”، لم يتعمد التمرّد. ما اطمأنت إليه نفسه كان أسمى من إكسابه شرعية بإعلان الحرب على المستقر، وأكثر استغناءً عن المطالبة بتسليم راية الشعر لقصيدة النثر “الملعونة”. لم يهتم بالتسمية، واستجاب لإيقاعه، وأنصت إلى “أوزان شخصية” لا تعرفها بحور الخليل بن أحمد. شغلته كتابةٌ راهن على أن لها “أوزاناً في النهاية”. وبعد أكثر من ستين عاماً، تُطالب قصيدة النثر بشهادة ميلاد، وقد “بلغت مبلغها من الكهولة”، بتعبير محمود قرني القائل إن “الحقيقة لا تولد مرّتين لأنها بطبيعتها غير متكررة”. ويستمرّ الصراع غير عابئ بدوران التاريخ في اتجاه واحد.

الذين يسميهم محمود قرني في كتابه “بين فرائض الشعر ونوافل السياسة” أنصارَ عبادة الشكل تستهويهم القضايا الكبرى، وبتقادم هذه القضايا ينتفي “الغرض” من الشعر ويُنسى ويطوى طيّ السجل. ويسعى الأذكياء إلى استدعاء قضايا ذات نزوع عاطفي طائفي كربلائي يحظى بالتصفيق، ولكنه لا يصلح للقراءة، ولا يلائم موسيقى الغرفة، ويحتاج إلى مكبرات للصوت تلهب حماسة جماهير الملاعب.

ريكله منح خلاصة خبرته للشاعر الشاب فرانتس زافر كابوس، وكتب إليه ناصحاً: “انجُ بنفسِك من المواضيع العمومية إلى تلك التي تتيحها لك حياتك اليومية، صِفْ أحزانك وأمانيك، والأفكار التي تعترضك وإيمانك بأي جمال ما، صِفْ ذلك كله بصدق حميم وهادئ ومتواضع… تعمّقْ في ذاتك”.

كتاب “رسائل إلى شاعر شاب” ترجمه عن الألمانية صلاح هلال، وأصدرته دار الكرمة في القاهرة. بمسؤولية تجاه الشعر، كتب ريلكه إلى فرانتس الضابط الشاب رسائل مؤثرة، بدأها بفتح العدسة على إطار أوسع من الشعر، على مفهوم الفن والمشاعر والموجودات الغامضة: “ليست الأشياء كلها قابلة للفهم أو القول… وأكثر الأشياء التي نعجز عن التعبير عنها هي الأعمال الفنية”.

الشعر، كما يراه محمود قرني، “غامض وهذه طبيعته ولو كان بسيطاً”، وأمام تعقيدات الحياة لم يعد الشاعر “مطالباً بأن يكون مثالاً أرضياً للصانع الأكبر، لذا بدأ رحلة البحث عن ذاته… سقطت أقانيم الوظيفة الشعرية”. هنا يحضر ذكاء نوعي أنقذ به محمود درويش تجربته.

ريلكه (1875ـ 1926) ثمرة دراساته للأدب وتاريخ الفن والفلسفة والفن التشكيلي وحصاد رحلاته وصداقاته. يقول إنه يحتفظ، علاوة على الكتاب المقدس، بكتب وروايات يشير إلى الشاعر الشاب بقراءتها، ضمن وسائل يستطيع بها صوْغ فنه. السخرية والخوف من الألفة الزائدة أولى هذه الوسائل. ويتجنب الشاعر الكبير النصيحة المباشرة، ويدلّ الشاعر الشاب على طريق قطعه في رحلة الشعر، معترفا بأنه إذا كان تعلّم “شيئا عن جوهر الإبداع، وعمقه، وسرمديته، فلن أجد سوى اسمين يمكنني ذكرهما: ياكوبسن الشاعر العظيم العظيم، وأوجست رودان، النحات الذي لا مثيل له بين جميع الفنانين الأحياء”. وينصحه بالاندماج في الحياة، وأن يعيش “كل شيء. عِشْ الأسئلة الآن”.

في عام 1902 ذهب ريلكه إلى باريس، بتكليف من ناشر ألماني، لتأليف كتاب عن “رودان”. ونشر الكتاب في العام التالي، وبين عاميْ 1906 و1907 عمل الشاعر سكرتيراً للنحات الفرنسي. وكما يحاول النحات، بأناة وصبر، استخراج التمثال من جوف الصخرة الكبيرة، فإن ريلكه يتولى مهمة تبصير الشاب بالذهاب إلى تمثاله الخاص، إلى طفولة حجبها العمر؛ ففي صرف الانتباه إلى تلك الأغوار سيعثر على عالمه وصوته الخاص، وربما يتبين له أنه خُلق ليكون فناناً، ويكتشف طرقاً “جيدة وغنية ورحبة”، وقد يتخلى عن فكرة أن يصبح شاعراً: “أن يشعر المرء أن بإمكانه الحياة من دون كتابة، حتى يكون الأجدر به ألا يكتب تماماً”.

كتاب “بين فرائض الشعر ونوافل السياسة”، الصادر عن دار الأدهم في القاهرة، يبدأ بمقدمة تحمل أسى شفيفاً على مصائر الشعر الجديد، وتقديم البعض من شعراء قصيدة النثر “تنازلات” بالعودة إلى الوزن، إنقاذاً للشعر المحكوم بعبادة القديم.

ولم يجد محمود قرني حاجة إلى تقديم تعريف للشعر، ولم يذكر أن الشعر أسبق وأكبر وأجلّ من اكتشاف أوزانه ووضع القواعد لبحوره، ومن محاولات التمرد على هذه القواعد. الشعر هو ما هو، أياً كانت وظيفته الجمالية أو المعرفية، ولا تقاس شعرية القصيدة بمعيار من خارجها. ولهذا يحتفي بمنجز عفيفي مطر ومحمود درويش ومحمد سليمان وغيرهم من شعراء قصيدة التفعيلة، بقدر حفاوته بشعراء قصيدة النثر.

(رصيف 22)