سامي مروان مبيض: هل نزل موشي شاريت في فندق “بلودان” القريب من دمشق؟

0

في 16 نيسان/أبريل 1949 استدعى حسني الزعيم، قائد الانقلاب السوري الأول، وزير خارجيته وقال: “دعنا نُنهي هذه القصة مع اليهود!”. استغرب الأمير عادل أرسلان هذا الطرح، ولم يُخفِ اندهاشه، فاقترب منه الزعيم، وأضاف همساً أنه يتعرض لضغوط كبيرة للاجتماع مع وزير خارجية إسرائيل موشي شاريت، مستفسراً عن مدى استعداد الأمير للقيام بتلك المهمة. “علينا ضغط شديد لمقابلة شاريت، ولا مناص لنا من عقد هذا الاجتماع”. كان شاريت يُبدي استعداده لملاقاة أي شخصية عربية، على عكس ديفيد بن غوريون الذي قال: “يجب على إسرائيل أن تسأل نفسها دوماً قبل مقابلة أي زعيم عربي: هل هو يُمثّل شعبه بحق؟ فاروق الأول هو مصر، ولكن من هو حسني الزعيم؟”.

انتفض عادل أرسلان بغضب عند سماعه لكلام الزعيم: “إني أرفض رفضاً باتاً مقابلة شاريت أو أي مندوب يهودي، ولن أسمح لأي موظف في وزارتي بمثل هذا الاتصال.” فكّر الأمير في الاستقالة وفضح الزعيم في الصحافة وأمام الشارع السوري، ولكنه تريّث خوفاً من أي تصرّف أرعن قد يقوم به الزعيم. تبيَّن أنّ الزعيم قد عَرض على إسرائيل الاجتماع, إما مع بن غوريون أم موشي شاريت، وإما في دمشق أو في تل أبيب أو على الحدود السورية، تمهيداً لإبرام اتفاقية سلام شاملة.

رد بن غوريون: “أنا لستُ في عجلة”. ولكن الدكتور أبا إيبان، ممثل إسرائيل في الأمم المتحدة ألح على بن غوريون قبول عرض الزعيم، معتبراً أنه “فُرصة تاريخية” قد لا تتكرر. قال رئيس الوزراء الإسرائيلي: “لا أرى فائدة من هذا الاجتماع في الوقت الحاضر”، ومع ذلك، لم يُمانع بن غوريون لقاء وزير خارجيته بحسني الزعيم. أرسل الزعيم مندوباً عنه لترتيب اللقاء بينه وبين موشي شاريت، بصفة “خاصة” بعيدة عن الإعلام.

شاريت في دمشق

في الرواية الرسمية السورية والإسرائيلية، لم يحصل اللقاء بين حسني الزعيم وموشي شاريت، ولا ذِكر له في الأرشيف البريطاني أو الفرنسي أو الأمريكي، أو في مذكرات شاريت. ولكن الكثيرين ممن عاصروا الزعيم وعملوا معه خلال فترة حكمه القصير أكدوا أن شاريت جاء بالفعل إلى سوريا لمقابلة الزعيم، ولكن بسرية تامة حفاظاً على سلامته. سمعنا هذا الكلام من سهيل العشي مدير شرطة حلب، وهيثم الكيلاني مرافق حسني الزعيم، وسامي جمعة، أحد عناصر المكتب الثاني الذي قال إنه رأى شاريت بنفسه عندما كان يقوم بحراسة الزعيم خلال وجوده في فندق “بلودان الكبير” في حزيران/يونيو 1949.

بحسب رواية سامي جمعة، وصل شاريت إلى فندق بلودان برفقة المقدم إبراهيم الحسيني، قائد الشرطة العسكرية، وكان متنكّراً بزي ضابط سوري، يرتدي بزة عسكرية برتبة “مُقدم”، ولكنها كانت مترهلة عليه، ما أثار شكوك عناصر المكتب الثاني. كذلك كان احترام إبراهيم الحسيني لهذا الضابط المجهول يُثير الاستغراب، حيث كان يتأخر عليه خطوتين أو ثلاثاً احتراماً، في وقتٍ كان فيه الحسيني لا يهابُ أحداً في سوريا، مدنياً كان أم عسكرياً.

عاد سامي جمعة إلى مقر المكتب الثاني في دمشق ذلك المساء، ودخل على رئيسه سعيد حبي، راوياً ما حدث في بلودان. أَخرج حبي أضابير الضباط كلها، وكان عدد المقدمين في الجيش لا يتجاوز عشرين مقدماً وأربعة أو خمسة عُقداء وثلاثة عمداء. طلب منه مراجعة الصور الشمسية لكل الضباط والتعرُّف إلى هذا الرجل المجهول. فقال له سامي جمعة إنه قطعاً ليس من هؤلاء. فأَخرج مدير الشعبة عدداً من مجلة “نيوزويك” الأمريكية، وأشار إلى صورة موشي شاريت، فتعرّف سامي جمعة إليه على الفور.

قرر سعيد حبي، وهو من الآباء المؤسسين للجيش السوري وينتمي إلى عائلة دمشقية متوسطة الحال من حيّ الميدان، التأكد بنفسه من هذه المعلومة الخطيرة، فالتقارير السرية كانت تُفيد بأنّ اتصالات مشبوهة تجري بالفعل بين دمشق وتل أبيب عبر وسطاء دوليين ومحليين. تنكّر سعيد حبي بلباس عامل بسيط، يرتدي سروال الفلاحين وحطّة عربية بيضاء، ووقف في حديقة الفندق، يجمعُ أوراق الشجر المتساقطة تحت الصالون الذي كان الزعيم يستقبل فيه كبار زواره.

في اليوم التالي جاء شاريت مرة أُخرى لمقابلة الزعيم، الذي كان برفقة حارسه الشخصي النقيب رياض كيلاني. نظر سعيد حبي إلى الضابط الغريب، وعرفه على الفور، قائلاً: “هو موشي شاريت!”.

طبعاً لم يُقدِم على أي عمل متهور، وعاد إلى دمشق للاجتماع مع ثلاثة من رفاقه: المقدم عزيز عبد الكريم، والمقدم محمود بنيان، والمقدم أديب الشيشكلي. وشكلوا وفداً رسمياً لمقابلة الزعيم ومواجهته بالأمر. لم يُنكر الزعيم القصة، بل أعرب عن انزعاجه من الضباط لتدخلهم في شؤونه، صارخاً في وجههم: “هذه سياسة عُليا للدولة، وأنتم كعسكريين محظورٌ عليكم التدخل في مثل هذه الأمور!”.

هذه الرواية، إن صحّت، تتناقض مع ما قاله شاريت نفسه أمام الكنيست الإسرائيلي يوم 26 أيار/مايو 1949: “عَرض علينا الزعيم أن نلتقي، ولكن هذا الاجتماع لم يحدث، لأنه طلب أن نكون إما أنا أو رئيس الحكومة. أرسلنا له أشخاصاً مرموقين، ولكنه اعتبرهم أدنى منه رُتبةً ومكانة. مع ذلك فإن عرضه يدل على أنه يمتلك رؤية جدّية أكثر من غيره، وأنه أكثر جُرأةً من الجميع، وهو يعلم حجم الامتيازات التي سوف يحصل عليها من قِبَلنا لو توصلنا إلى اتفاق”.

المؤكد أنّ شاريت عرض التفاوض مرة ثانية بتاريخ 7 حزيران/يونيو 1949، ولكن الأمير عادل رفضه مرة أُخرى قائلاً للزعيم: “لماذا يريدون أن نقابل شاريت؟ ألم يكفِ ما أصابنا من خداع اليهود؟”.

هنا أدرك الزعيم أن لا جدوى من عادل أرسلان، فاستدعى وكيل وزارة الخارجية إبراهيم الأسطواني، وطلب منه مقابلة الوزير الإسرائيلي، ولكنه رفض. فحاول بعدها مع المستشار القانوني الدكتور صلاح الدين الطرزي الذي تنصّل بعد هذا اللقاء، قائلاً لأحد أصدقائه: “لقد أتوا به من أجل السلام. كان حسني الزعيم متواطئاً من اليوم الأول”. جُنّ جنون الأمير عادل أرسلان، وبعث برسالة إلى الملك عبد العزيز آل سعود شاكياً الوضع في دمشق، حملها السفير عبد العزيز بن زيد إلى الرياض، وصَف الزعيم خلالها بأنه “قليل البصيرة وقصير مدى التفكير”.

(رصيف 22)