بثّت قناة روسيا اليوم (الإنكليزية) برنامجاً وثائقياً عن سورية، قوامه أشرطة أفلام منسية، عُثر عليها في مدينة سانت بطرسبرغ، فيها مشاهد عامة للعاصمة السورية دمشق في مطلع الستينيات.
تظهر شوارع المدينة بوضوح، مع أهلها ومتاجرها، ومن ضمن المشاهد لقطة عابرة للجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين وهو يعبر شارع 29 أيار الدمشقي. ومن هذه اللقطة تُبنى قصة البرنامج، الذي يطرح سؤال إن كان كوهين هو المستهدف من كل هذه التسجيلات، أم أن ظهوره مجرد صدفة؟
هذا المشهد العابر يطرح سؤالاً مهماً: أين هو أرشيف سورية التاريخي المصوّر؟ نحن نعرف مثلاً أن جنازة زعيم حلب، إبراهيم هنانو، سُجّلت سينمائياً للحفظ سنة 1935، ولكن لا نعرف شيء عن مصيرها اليوم. ولعل مصيرها يشبه مصير الآف التسجيلات المرئية التي ضاعت في عتمة الانقلابات العسكرية المتكررة، سُرقت أو أُتلفت، إمّا عن جهل أو عن قصد.
فمن المعروف أيضاً أن زيارة الجنرال شارل ديغول إلى دمشق، وجولته على المدن السورية، سُجّلت سينمائياً أيضاً، لأنها محفوظة في مكتبة الرئيس ميتران بباريس، ولكن لا أثر لها في سورية بالمطلق. وكذلك تسجيل عيد الجلاء الأول في 17 نيسان 1946، فهو بكل بساطة… مفقود.
بعض هذه التسجيلات تم نقلها إلى التلفزيون السوري عند تأسيسه في زمن الوحدة سنة 1960، ومن المعروف أيضاً أن المصريين قطعوا عن سورية الأفلام الخام بعد وقوع الانفصال، فصار السوريون يسجّلون فوق ما لديهم من أشرطة قديمة. ولكيلا يتوقف بث التلفزيون السوري ولا تنقطع حملته ضد جمال عبد الناصر وأركان حكمه، مسحوا الكثير مما وقع بين أيديهم من أشرطة، وقد أدى هذا التصرف الأرعن إلى ضياع عدد كبير جداً من التسجيلات القديمة، ومنها مثلاً شريط أول بثّ للتلفزيون السوري، الذي كان بصوت وصورة الإعلامي سامي جانو.
وهذا يفسّر كيف أن التلفزيون السوري اليوم لا يملك إلا خمسة عشر عملاً، فقط لا غير، من إنتاج الأبيض والأسود، علماً أنه ظلّ يبث بهذه الطريقة حتى بدء البثّ الملوّن مطلع عام 1978. وبسبب الطيش والمواقف السياسية، تم في مطلع عهد الانفصال إتلاف جميع التسجيلات السينمائية المتعلقة بجمال عبد الناصر وفترة حكمه في سورية (1958-1961)، بما في ذلك زيارته الأولى إلى دمشق، التي أعلن خلالها، ومن على شرفة قصر الضيافة بشارع أبو رمانة، ولادة الجمهورية العربية المتحدة. سورية لا تملك ذلك التسجيل التاريخي، ولا حتى كلمة الرئيس السوري في حينه، شكري القوتلي، والسبب ببساطة، لأنها مُسحت عمداً.
وما نجا من تلك التسجيلات والأفلام القديمة، تم نقله إلى مستودع في بلدة السبينة بريف دمشق، حيث بقي لعقود في ظروف تخزين سيئة للغاية، لا وقاية له من الرطوبة، الأمطار وحرّ الشمس. وفي مطلع الحرب الحالية قبل عشر سنوات، دُمّر هذا المستودع خلال معارك الريف، ولا أحد يمكنه تحديد ما كان يحتوي من كنوز. لعل فيه كان تسجيل عيد الجلاء؟ أو ربما كنّا وجدنا فيه تسجيل جنازة إبراهيم هنانو؟
وفي أرشيف التلفزيون السوري اليوم يوجد بعض التسجيلات القليلة جداً عن مرحلة ما قبل عام 1960، استُخدمت منذ ثلاثة عقود في إنتاج البرنامج الوثائقي الشهير “مُذكّرات وطن”، بعضها يعود إلى العهد الفيصلي (1918-1920) وفيها بعض المواد من زمن الانتداب.
وهناك أرشيف آخر موزّع بين الإدارة السياسية ومؤسسة السينما، يتضمن المواد السينمائية الترويجية التي كانت تُعرض في صالات السينما قبل عرض الأفلام الرئيسية، عن أنشطة الرؤساء وزيارة بعض الضيوف العرب والأجانب، إضافة إلى مشاهد إعدام إيلي كوهين في ساحة المرجة سنة 1965. وبذلك، تكون سورية لا تملك إلّا القليل القليل من أرشيفها السينمائي التاريخي غير الفني.
ولكن ماذا عن الأرشيف الموجود في الخارج، الذي يظهر بين الحين والآخر على مواقع التواصل الاجتماعي؟ بعضه يحمل دمغة شركة “British Pathe” والآخر من الأرشيف الألماني، والآن في قناة روسيا اليوم.
كيف وصل هذا الأرشيف إلى لندن وبرلين وسانت بطرسبرغ؟ الفرنسيون طبعاً أخذوا معهم الكثير منه عشيّة انسحاب جيوشهم من سورية سنة 1946، ولم يعترض أحد من السوريين يومها، لأنهم أرادوا شيئاً واحداً فقط لا غير، وهو جلاء تلك القوات عن بلادهم.
لم يفكر أي من قادة سورية يومها في تفقد ما نقل من دمشق، بين أمتعة الجنود الفرنسيين، من مستندات وأوراق وسجّاد وتحف وأشرطة سينمائية. ولكن ماذا عن المواد الموجودة في الخارج، والتي صوّرت بعد العام 1946؟ كيف وصلت الى أوروبا وروسيا وأميركا؟ كيف وصل فيلم انتخاب شكري القوتلي إلى جامعة كاليفورنيا؟ كيف حصلت شركة British Pathe على استقبالات حسني الزعيم في القصر الجمهوري؟ كيف وصلت تسجيلات خطب الرئيس أديب الشيشكلي إلى ألمانيا وهي غير موجودة في دمشق؟
الجواب: على الأغلب، هو أنها هُرّبت خارج البلاد، أو بيعت إلى تلك الشركات العالمية، ولم يُسأل أحد عن ذلك الفعل، ولم يُحاسب أحد.
(رصيف 22)