سامية عيسى: “بيت الوحش” لحسين مرعي: خيالٌ مسرحي عن عائلة الأسد

0

بَعد الجرائم ضدّ الإنسانية التي اقترفها نظام الأسد في سورية، تساءل كثيرون منّا عن “طبيعة” عائلة الأسد، التي ظلّت ممسكة بزمام السُّلطة منذ الانقلاب الذي أطاح من خلاله حافظ الأسد، عام 1970، بنور الدين الأتاسي، رئيس الجهورية، وبالقيادة القطرية لـ”حزب البعث”، الممثّلة بصلاح جديد.

ومنذ 1971 وحتى اليوم، إنْ كان تحت سُلطة الأسد الأب الذي مات عام 2000 أو تحت سلطة ابنه الذي ورثه منذ ذلك الوقت، عاشت سورية تحت حُكم عائلة الأسد أكثر من نصف قرن من الاستبداد قلّ مثيله، حيث فاقت وحشيّته كلّ تصوُّر منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011.

في نصّه المسرحي “بيت الوحش”، الصادر حديثاً عن دار “خان الجنوب”، يجيب الكاتب السوري حسين مرعي عن بعض من هذه التساؤلات حول عائلة الأسد، مستنداً إلى الحقائق والوقائع المعروفة، مقرونةً برمزية تَعْبر بنا إلى منابع هذه الوحشية، والغرائز التي سمحت بها، في خليط من الواقع والمتخيَّل، ضمن ما يمكن وصفه بالكوميديا السوداء.

يتناول النص حياة عائلة الأسد الضيّقة وطبيعة العلاقات في ما بينها منذ تسعينيات القرن الماضي إلى يومنا هذا. ويستكشف، عبر 15 مشهداً مسرحياً وحوارات متخيلة، ما شابَ سيرة هذه العائلة من خفّة لا تُحتمل بالنظر إلى ما اقترفه الأب والابن من قتل وتشريد واعتقال، ليضعا سورية وشعبها في مهبّ مقتلة ما تزال رحاها تدور وما تزال تفتك بالأرواح وتسفك الدماء وتدمّر المنازل والمدن وتشرّد الملايين؛ فمَن هي هذه العائلة؟

الغائب الحاضر في هذا النص يتمثّل بشخصية باسل الأسد، الابن الذي مات، أو اغتيل، في ظروف غامضة عام 1994، لكنّها ظروفٌ استهدفت، في الغالب، قطْع الطريق على توريثه الحكم في سورية بعد وفاة والده. وإذا كانت شخصية حافظ الأسد لا تشارك في الحوارات المسرحية، فهي تحضر فيها “بالوكالة”، عبر باقي أفراد العائلة.

يُبرز حسين مرعي تفاهةَ وانحطاط “العائلة” عبر حواراتها التي تبدو شديدة الواقعية والعبثية، ومعبّرة عمّا يدور من علاقات متوتّرة في ما بين أفرادها. ويستعرض تفاصيل شخصياتهم انطلاقاً من شخصية مجد، الابن الرابع في العائلة، الذي غُيّبَ عمداً عن الأضواء، بل جرى إقصاؤه بسبب مرض عصبي أُصيب به منذ الولادة. في نصّ الكاتب، يعيش مجد في عالم خيالي وهميّ من الدمى المحشوّة بالقطن، كالفتاة الصلعاء، حبيبته، والحارس الأمني الذي لا يفارقه. وفي حياة مضطربة يسيطر عليه الخوف فيها، عاش مجد أسير جدران بيت الوحش، أو الأسد، وفي كنف أسرة مهووسة بالسلطة.

يحاول الكاتب أن يقدّم لنا التدرُّج الذي قاد هذه العائلة إلى المزيد من الانحطاط. كانت لحظة اغتيال باسل الأسد نقطة فارقة في قياس هذا التدرُّج. أغلب الظنّ أن الكاتب أراد أن يستكشف كيف أدّى هذا الاغتيال إلى مجيء بشار كرئيس ضعيف، غير مسؤول و”دلّوع”، بديلاً عن باسل؛ ربّما كي يفهم السبب الذي أدّى إلى هذا الحجم من الوحشية الفاقدة للعقل والمنطق وأي شعور بالمسؤولية، ولافتقاده الحكمة أو الحنكة في إدارة “أزمة” ألمّت بنظامه، مثل الثورة السورية المحقّة. فرئيس قويّ ــ حتى لو كان مستبدّاً، ربما ــ لن يقود بلده للخراب ويقدّمه لقمة سائغة لكلّ الطامعين.

عبر تفكيكه للأحداث التي جاءت ببشار الأسد إلى السلطة، وتفكيكه لشخصيته السطحية، غير المؤهّلة للحكم، بغضّ النظر عن استبداده من عدمه، يمضي مرعي قدماً في تصوير حياة بيت الوحش الذي كان يربّي “الوحوش”، عبر شخصية ماهر.

لم يدخل الكاتب في تفاصيل شخصية باسل. اكتفى بوصف حضوره السياسي والعسكري الذي هُيّئ وفقه ليتولّى الحكم من بعد أبيه. كما لم يتوغّل كثيراً في شخصية بشار، باستثناء إبراز تورُّطه في حُكم لم يرغب به، بل أُرغم عليه، يتنافر مع طباعه وميله للابتعاد عن السياسة وأيّ مجال ذي صلة بمجالات الحُكم، كالجيش والاقتصاد. بل يُبرز نزوعه للهو ودراسة طبّ العيون والعيش في لندن عيشاً لا يمتّ بصِلة لأي طموح بالحكم. يظهر ذلك في حوار أشبه بخصام مع أخيه ماهر، الذي يرى في نفسه أحقّية أكثر من بشار في أن يكون الوارث لسلطة أبيه.

أمّا شخصية ماهر، فندخل إليها من باب علاقته بالطاهية صفية، التي يشارك في عشقها مع أخيه الأكبر، مجد، المريض النفسي والمدمن، والتي كانت تلعب دوراً مؤثّراً في حياته. ورغم أن صفية ابنة أعزّ صديقات أنيسة، أمّهما وزوجة حافظ الأسد، إلّا أن الطاهية كانت تسبّب قلقاً لأنيسة، التي تنتهي بإزالتها من الوجود. في شخصية ماهر خصال تدلّ على التهوّر والنزوع إلى العنف والفسق ومنافسة أشقائه.

أمّا مجد، الذي يعيش في عالمه الوهمي مع الفتاة الصلعاء وحارسه الشخصي، فهو يهجس بالخوف من أنّ ثمة مَن يستهدفه بالقتل. وهو هاجس استبدّ به كانعكاس للخوف الذي تستثيره عائلته في الضباع التي يربّيها ماهر. وترمز هذه الضباع إلى البنية التي تَكوّن منها كلُّ هذا الولاء للعائلة الأسدية، وهي تبدو في النص أقلّ وحشية من ماهر الذي يُتقن ترويضها بالتجويع والترهيب وإخضاعها للولاء. مفارقةٌ يشير من خلالها المؤلّف إلى الكيفية التي يُزرع من خلالها الخوف وتُبنى الولاءات لدعم الطغاة.

ومن خلال هذا الفهم لشخصية بشار الأسد، سيفهم القرّاء كيف تدرّج هذا “الدلّوع” إلى أعلى قمم الاستبداد عندما تحوّل إلى أُلعوبة بيد أجهزة الاستخبارات السورية، ومن ثمّ إلى دمية بيد الطامعين بسورية ممّن استنجد بهم على شعبه.

أمّا الأم، التي هي أبعد ما تكون عن الأمومة، فتشغلها السلطة والمال من خلال علاقتها بأخيها محمد مخلوف، الذي كان يستخدمها للوصول إلى منافع شخصية مادية ومعنوية شكّلت أحد أبواب الفساد الرئيسة في النظام الأسدي. وتنتقل عدوى هذا التدخّل إلى ابنتها بشرى، التي ترتبط بعلاقة حبّ مع مسؤول الاستخبارات، آصف شوكت، تفضي إلى الزواج، وتشكّل بداية تغلغله في مفاصل النظام.

“العربي الجديد”