أجهز إعلان إغلاق مكتبة نوبل الشهيرة في دمشق على آمال العديد من المثقفين والقراء، الذين يعتبرون هذه المكتبة من أبرز معالم الحياة الثقافية السورية. ويأتي هذا الإجراء كتتمة لحالة التدهور التي تشهدها حركة صناعة الكتاب في شتى المدن السورية. فمنذ أكثر من عشر سنوات بدأت المكتبات تختفي من معظم الحياة الثقافية للبلاد، لتتقدم رؤوس أموال غامضة لاحتلال مواقع هذه المكتبات ومبانيها، وتحويلها بين يوم وليلة إلى مقرات لشركات الصرافة، أو مقاه لتدخين النراجيل، وفي أحسن الأحوال إلى محال لبيع الحلويات والأحذية.
هكذا على التوالي أغلقت مكتبة ميسلون أبوابها لتتحول إلى مركز صرافة، ثم مكتبة أطلس لتتحول إلى متجر للألبسة، فيما تحولت مكتبة الزهراء إلى سوبرماركت. اليوم يعلن القائمون على مكتبة نوبل إغلاق أبوابها إلى الأبد أمام الزوار. خطوة أنهت قرابة خمسة عقود من علاقة تاريخية بين جمهور القراء والكتّاب كانت المكتبة في ما مضى وسيطها التقليدي.
تراجع الكتاب
مع تعاظم عدد القراء في الستينيات والسبعينيات ازدهرت المكتبات الشامية، لكنها أخذت بالتقلص بفعل الهزائم والإحباطات، وأخذت المكتبات بالتراجع، فتحوّلت مكتبة العائلة في ساحة النجمة في دمشق إلى صيدلية. أما شارع البريد المعروف بمكتباته العريقة فتحوّل معظم مكتباته إلى محالّ للوجبات الجاهزة؛ في حين أقفلت مكتبة إيتانا في حي الشعلان بعد سفر صاحبها معن عبد السلام إلى خارج البلاد، ما أدى بدوره إلى تراجع حضور المكتبات ذات الطابع العلماني من جهة العناوين التي تبيعها، وذلك على حساب طغيان مكتبات ذات طابع ديني في قلب العاصمة. ويمكن للزائر اليوم أن ينبته لحضور كثيف لهذا النوع من المكتبات في حي الحلبوني الدمشقي؛ وفي واجهات فخمة تبث على مدار الساعة تسجيلات صوتية ترويجية عن كتبها ذات التجليد الفني الفخم.
في الستينيات والسبعينيات، زمن الأحلام الكبرى كان مرتادو المكتبات يتلاصقون أحياناً، كتفاً بكتف، لاختيار ما يرغبون به من الكتب، فتعددت المكتبات وازدهرت، وتمددت في شوارع دمشق. فالفلسطيني سمعان حداد أنشأ مكتبة أطلس في شارع الصالحية، ومحمد حسين النوري أنشأ مكتبة النوري في ساحة الحجاز، ومحمد زياد تنبكجي أنشأ مكتبة دمشق، ولكن أقدمها كانت دار ومكتبة اليقظة، التي تحولت اليوم إلى متجر للأحذية، حالها حال مكتبة “فكر وفن” لصاحبها الشاعر منذر مصري، الذي اضطر إلى إغلاقها عام 1992 بعد تعرضه وشقيقه رفعت إلى مساءلات أمنية شديدة اللهجة.
عن هذه التجربة يخبرنا منذر مصري فيقول: “أمضيتُ منذ مطلع الثمانينيات ردحاً من حياتي لهذا المشروع، لكن وتحت ضغوط أمنية، واقتيادنا أنا وشقيقي للتحقيق في أحد الفروع الأمنية أغلقتها وصارت دكاناً لبيع الأحذية. غلاء أسعار الكتب لا شك أسهم في ذلك، فاليوم ثمن كتاب يعادل راتب موظف في سورية”.
معاندة الإغلاق
المكتبات التي تبقت في اللاذقية قليلة، وهي “مكتبة المجد” و”الشاطئ” و”وليد كردية” و”جعفر الصادق”، لكن التأثير ليس لهذه المكتبات الأربع التي ما زالت حتى الآن تعاند الإغلاق، بل لبسطات الكتب- يضيف منذر مصري ويوضح: “سورية اليوم تحولت إلى مطبعة، وثمة من يقوم بتصوير الكتب وبيعها، نظراً لغلاء ثمنها، لا سيما تلك الكتب التي تأتينا من لبنان ومصر. حتى الكتب الصادرة عن دور نشر سورية تبقى أسعارها باهظة نسبةً إلى دخل المواطن السوري. خذ مثلاً كتابي الأخير الذي أصدرته عن الشاعر اللاذقاني محمد سيدة، والذي كنتُ أظن أن القراء- على الأقل في اللاذقية- سيتخاطفونه حال صدوره، هذا الكتاب الذي لا يتجاوز ثمنه خمسة آلاف ليرة بقي مكدساً في مستودع دار التكوين. الحالة مزرية، حتى مكتبتي الشخصية والتي نقلتها أخيراً إلى بيتي الجديد عششت فيها العناكب. فمؤخراً أميل إلى القراءة على الآي باد، وهناك سهولة في تنزيل أي كتاب عن الإنترنت في صيغة “بي دي أف”، بدلاً من دفع راتبك الشهري لشراء كتاب لا تتجاوز صفحاته 37 صفحة”.
العديد من مكتبات مدينة اللاذقية لاقت المصير نفسه، وأشهرها مكتبة الخيّام إضافةً إلى مكتبة ونادي “الرسم المجاني” لأطفال اللاذقية، والذي أسسه فنان الكاريكاتور عصام حسن. معظم المكتبات المنقرضة كان يختص ببيع كتب القصص الروسية الصادرة وقتها عن دار التقدم في موسكو أو دار الحقيقة. وقد أسهم أفول الشيوعية في اختفاء المكتبات السورية منذ تسعينيات القرن الفائت. وباعتبار الثقافة والتعليم كانا بمثابة حبل خلاص للفقراء السوريين صمدت العديد من المكتبات، لكن إلى حين. فمع دخول العشرية الثانية من الألفية الثالثة تهاوى العديد منها في شرك الإغلاق، أو تحولت إلى بيع القرطاسية والدفاتر إلى جانب بيع ما تبقى من كتب في مستودعاتها كي يضمن أصحابها الاستمرار.
ربما كانت السبعينيات والثمانينيات الربيع الحقيقي لازدهار المكتبات في حلب، يعلق الروائي والناقد نذير جعفر ويقول: “كنت لا أمر بشارع إلا وأحظى بمكتبة تزخر بآخر ما طبع في بيروت أو القاهرة أو دمشق. بل إن بعض أصحاب تلك المكتبات كانوا يطلبون للقارئ أي كتاب يريده من دور النشر ليصلك خلال ثلاثة أيام. أما بالنسبة إلى الكتب القديمة أو المفقودة من المكتبات الحديثة لنفاد طبعاتها؛ فكان لها مكتبات عدة متخصصة فيها في شارع القوتلي، لتتحول كلها الآن إلى محلات لبيع “الموبايلات” وأكسسواراتها”!
ماض جميل
لا يمكن لمثقف من حلب أو زائر لها آنذاك؛ إلا ويتردد على مكتبة الفجر التي تخصصت ببيع الكتب الروسية المترجمة إلى العربية؛ وبالفكر الماركسي على نحو خاص؛ إذ كانت معارضها السنوية تشهد زحاماً كبيراً. وهذا ما كان يستغله هواة سرقة الكتب في الحصول على مبتغاهم بلا ثمن، حتى تحولت مكتبة الفجر إلى محل لبيع الكنافة النابلسية.
المكتبات في حلب كان لها دور رئيسي في بيع أو ترويج إصدارات دور النشر المصرية واللبنانية؛ وتشكيل ما يشبه صلة وصل بين الشرق والغرب. فمكتبة استانبولي كما يتذكرها الروائي نذير جعفر: “كانت تزين واجهتها بآخر الإصدارات في العواصم العربية التي لم يمض على صدورها سوى بضعة أيام! وكان صاحبها مستعداً لإحضار أي كتاب عربي أو أجنبي تطلبه من أي عاصمة أو دار نشر، وكم أحزنني أيضاً تحولها إلى محل لبيع الحقائب الجلدية”!
وفي زاوية تقاطع شارع بارون الحلبي مع شارع القوتلي كانت تنهض دار نشر ومكتبة عفش المتخصصة بكتب التراث وقصص الأطفال، لكنها توقفت أيضاً عن نشاطها واكتفت بفتح أبوابها أحياناً بغرض التصفية، ومثلها مكتبة الأصمعي العريقة في حي الجميلية في حلب التي أصبحت جاهزة للبيع بعد تصفية معظم محتوياتها! وليست حال مكتبة “عجان الحديد” الشهيرة بكتب التراث أفضل حالاً، فقد انتقلت إلى حي بعيد ويكاد لا يهتدي إليها من يقصدها إلا بشق النفس، وتحول مركزها القديم المعروف إلى محل تجاري!
لكن هل تصدق نبوءة إمبرتو إيكو، وتتحول المكتبات الخاصة والعامة؛ إلى مجرد متاحف للكتب تثير الغرابة لدى الأجيال المقبلة التي سرقتها ثورة التواصل الإلكتروني؛ ولم يعد لها أي صلة بالكتاب الورقي الحميم؟ سؤال تجيب عليه الناقدة والأكاديمية عبير سلمان، وتدعو على صفحتها في “فيسبوك” إلى وقفة احتجاجية أمام مكتبة نوبل وتقول: “ننظم هذه التظاهرة للمطالبة بعدم إغلاق مكتبة نوبل، والأمل أن تقف معنا الجهات المعنية، إذ أعتبر هذا واجباً أخلاقياً أمام انقراض الكتاب من حياتنا، فالمسألة ليست شخصية، إنما هي ركن أساسي من أركان وجودنا كبشر، ليس من المعقول أن ينظر إلينا كأجهزة هضم ليس إلا”.
*اندبندنت